السفير مصطفي الشربيني يكتب :غزو الطبيعة أم ثأرها؟ نيران الغضب أم غضب النيران؟
كتب: السفير مصطفي الشربيني، الخبير الدولي في الاستدامة وتقييم مخاطر المناخ ورئيس الكرسي العلمي للاستدامة والبصمة الكربونية بالألكسو بجامعة الدول العربية وسفير ميثاق المناخ الأوروبي في مصر والمراقب باتفاقية باريس لتغير المناخ
وسط ألسنة النيران التي تلتهم كاليفورنيا عامًا بعد عام وبين الأعاصير التي تضرب بقوة لتذكرنا بأن الطبيعة لا ترحم من يستهين بها تبدو أمريكا وكأنها في سباق محموم ضد نفسها تائهة بين سياسات قصيرة النظر وحقائق مناخية لا تقبل الجدال فما الذي يجعل هذه الكوارث تتكرر بهذه الشدة وهل ستظل البلاد تسير في طريق الإنكار حتى تتحول من قوة عظمى إلى ضحية عظمى، في آخر عشرين عامًا شهدت الولايات المتحدة الأمريكية سلسلة من الأعاصير المدمرة والحرائق الهائلة التي أسفرت عن خسائر مادية ضخمة وأدت إلى تغيير في مسار الحياة اليومية في بعض المناطق ولم تعد هذه الظواهر الطبيعية مجرد حوادث عابرة بل أصبحت جزءًا من واقع يعيشه الأمريكيون بشكل دوري وبات من الواضح أن تغير المناخ هو العامل الرئيس في تزايد شدة هذه الأحداث.
منذ بداية الألفية الجديدة أصبحت الأعاصير أكثر عنفًا وأشد تأثيرًا على الأراضي الأمريكية فقد أسفرت الأعاصير الكبرى مثل "إعصار كاترينا" في 2005 الذي دمر مدينة نيو أورلينز وضواحيها عن خسائر مادية ضخمة تقدر بحوالي 125 مليار دولار وكانت هذه الكارثة بمثابة جرس إنذار للعالم أجمع حول خطورة التغيرات المناخية وتأثيراتها السلبية على الكوكب وبعد عامين شهدت الولايات المتحدة "إعصار ريتا" الذي ألحق أضرارًا تقدر بنحو 18 مليار دولار تبعه "إعصار ويلا" في 2007 الذي أدى إلى تدمير أجزاء كبيرة من ولايتي تكساس ولويزيانا وفي 2017 ضرب "إعصار هارفي" ولاية تكساس وأسفر عن خسائر مادية فاقت 125 مليار دولار بسبب الفيضانات التي نجمت عنه وهو أحد أغلى الأعاصير في التاريخ الأمريكي من حيث التدمير
مع تقدم السنوات زادت شدة الأعاصير إذ شهدت السنوات الأخيرة مثل "إعصار ماريا" في 2017 الذي دمر بورتو ريكو وأسفر عن خسائر اقتصادية تزيد على 90 مليار دولار و"إعصار فلورنس" في 2018 الذي ألحق أضرارًا فادحة في ولاية كارولاينا الشمالية والجنوبية ومع التغيرات المناخية التي شهدها العالم أصبح من المؤكد أن الأعاصير أصبحت أقوى وأكثر تدميرًا حيث تشير الأبحاث إلى أن درجات حرارة المحيطات المرتفعة توفر طاقة أكبر لهذه العواصف مما يساهم في قوتها وشدتها.
بالإضافة إلى الأعاصير فإن الحرائق البرية في الولايات المتحدة أصبحت أكثر شراسة في السنوات الأخيرة ففي 2003 دمرت الحرائق في ولاية كاليفورنيا أكثر من 3,600 منزل بينما في 2018 كانت الحرائق في كاليفورنيا أكثر تدميرًا على الإطلاق حيث قضت على أكثر من 18,000 منزل وأتت على أكثر من 1.8 مليون فدان من الأراضي كما شهدت الولاية حرائق ضخمة في 2020 حيث دمرت الحرائق حوالي 4 مليون فدان من الغابات مما جعلها واحدة من أسوأ سنوات الحرائق في تاريخ الولاية.
ومن المعروف أن حرائق الغابات تسببت في تدمير مئات الآلاف من المنازل والبيوت في مناطق كاليفورنيا وأوريغون وواشنطن حيث تسببت الرياح العاتية والحرارة الشديدة في انتشار النيران بشكل أسرع من قدرة رجال الإطفاء على السيطرة عليها وفي عام 2020 فقط تسببت الحرائق في تدمير أراضٍ تزيد على 4.5 مليون فدان في الولايات الغربية من أمريكا وأثرت بشكل بالغ على المجتمعات المحلية والبيئة كما تسببت هذه الحرائق في خسائر مادية ضخمة تجاوزت الـ 10 مليار دولار مما جعلها واحدة من أكثر فترات الحرائق تدميرًا في تاريخ أمريكا.
ما يجمع بين هذه الكوارث الطبيعية هو تأثير تغير المناخ الذي ساهم في جعل الأعاصير أكثر تدميرًا والحرائق أكثر انتشارًا فمن خلال ارتفاع درجات الحرارة سواء في المحيطات أو في المناطق الداخلية يزداد توفر الطاقة اللازمة لتكوين الأعاصير والحرائق هذا بالإضافة إلى الجفاف الذي يعاني منه العديد من الولايات الأمريكية مما يجعل الأراضي أكثر عرضة للاشتعال كما أن زيادة درجات الحرارة تؤدي إلى ذوبان الجليد في القطب الشمالي مما يساهم في تغيير نمط الرياح واتجاهات الأعاصير وبالتالي تصبح هذه الأعاصير أكثر قوة
تجاوزت الخسائر المادية بسبب الأعاصير والحرائق في العقدين الماضيين مئات المليارات من الدولارات الأعاصير الكبرى مثل "إعصار كاترينا" و"إعصار هارفي" أسفرت عن تدمير واسع النطاق للبنية التحتية والمنازل بينما أدت الحرائق في كاليفورنيا إلى خسائر هائلة في الممتلكات والأراضي الزراعية والغابات الأضرار الناتجة عن هذه الكوارث تتجاوز مجرد الأضرار المادية حيث تسببت هذه الأحداث في تهجير مئات الآلاف من المواطنين وفي بعض الحالات أدى فقدان المنازل إلى تشرد العائلات وتدمير سبل العيش.
لا شك أن الأعاصير والحرائق التي اجتاحت الولايات المتحدة في آخر عشرين عامًا هي مؤشر على أن التغير المناخي أصبح واقعًا يجب التعامل معه التأثيرات المدمرة لهذه الظواهر الطبيعية تتطلب استجابة عاجلة من الحكومة الأمريكية والمجتمع الدولي بشكل عام لمواجهة هذه التحديات وإذا استمرت هذه الظواهر في التزايد فقد نواجه كارثة أكبر في المستقبل ما يتطلب تغييرات جذرية في السياسات البيئية والاقتصادية لمواجهة آثار التغير المناخي.
حرائق كاليفورنيا: نيران الغضب أم غضب النيران؟
لا يمكن وصف حرائق كاليفورنيا المتكررة إلا بأنها مأساة تتجسد أمام أعيننا بكل فصولها مئات الآلاف من الأفدنة تتحول إلى رماد آلاف المنازل تُدمر وأسرٌ تُجبر على ترك كل ما تملك في مواجهة قوة الطبيعة التي لا تعرف شفقة هذه الحرائق ليست مجرد نتيجة لطقس جاف أو رياح شديدة بل هي تجسيد حي لأزمة مناخية تُصنع بيد الإنسان حين تتصاعد انبعاثات الغازات الدفيئة لتزيد من حرارة الكوكب وتحوّل الغابات إلى قنابل موقوتة تنتظر الشرارة الأولى لتنفجر لكن هنا يكمن السؤال المزعج كيف يُمكن لدولة تُعد من أقوى دول العالم أن تُترك لتواجه هذه الكوارث دون استراتيجية حقيقية وهل ستظل الإدارة الأمريكية تغض الطرف عن هذه الكوارث وتدّعي أنها مجرد "حوادث طبيعية" أم ستعترف بأن السياسات التي تبنتها مثل الانسحاب من اتفاقية باريس ليست إلا حماقة سياسية ستدفع ثمنها الأجيال القادمة.
انتبه ترامب! الغضب قادم
بينما وقف دونالد ترامب ذات يوم على منصة البيت الأبيض يعلن بفخر قراره بالانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ بحجة حماية الاقتصاد الأمريكي كانت الطبيعة تُجهز ردها الحاسم الذي لا يحتاج إلى مؤتمرات صحفية أو خطابات براقة فجاء الرد على شكل أعاصير جامحة وحرائق مستعرة وكأنها تقول لترامب بوضوح "انسحب كما تشاء ولكنك لن تنجو من غضبي" فالانسحاب من المعركة ضد التغير المناخي ليس انسحابًا من مسؤولية دولية فحسب بل هو انسحاب من الحكمة والعقل والعلم وهو بمثابة إعلان حرب ضد كوكب لم يعد يحتمل المزيد من الجهل والإنكار.
ترامب ربما تصور أن الاتفاقية عبءٌ مالي سيقتطع من أرباح الشركات العملاقة لكنه لم يدرك أن الطبيعة لا تميز بين برج ترامب في نيويورك أو أكواخ اللاجئين في بنغلاديش فالرياح التي تدمر المدن والنيران التي تلتهم الغابات لا تهتم بجغرافيا السياسة ولا بحدود الدول يبدو أن ترامب قرر الوقوف في وجه الإعصار لكن الغريب أن الإعصار هذه المرة لم يأتِ من المحيط بل من قرارات مكتبه نفسه التي أشعلت ألسنة النيران وجعلت السماء الأمريكية تمطر رمادًا والآن كل ما يمكننا قوله هو انتبه ترامب الغضب قادم والطبيعة لن تتراجع.
الأعاصير: غزو الطبيعة أم ثأرها؟
الأعاصير التي تضرب أمريكا كل عام ليست مجرد ظواهر عابرة بل هي نتيجة مباشرة لجغرافيا البلاد وتأثير المناخ المتغير والإهمال البشري الذي يعزز من شدتها فمن أين تأتي هذه الأعاصير وكيف تتشكل لتتحول إلى كوارث مدمرة الأعاصير تبدأ من المحيطات الدافئة حيث ترتفع حرارة المياه لتطلق كميات هائلة من البخار مما يؤدي إلى انخفاض الضغط الجوي ومع دوران الأرض تبدأ الرياح بالدوران حول مركز الضغط المنخفض وتتشكل العاصفة التي تتحول مع الوقت إلى إعصار مداري ولأن المحيط الأطلسي وخليج المكسيك يحيطان بالسواحل الأمريكية فإن هذه المناطق تتحول إلى نقاط ولادة للأعاصير التي تزداد قوة كلما زادت حرارة المياه بفعل تغير المناخ لكن الأعاصير ليست متساوية في قوتها فمنها ما يُعد مجرد عاصفة استوائية برياح خفيفة ومنها ما يتحول إلى إعصار من الفئة الخامسة برياح تتجاوز سرعتها 252 كم/ساعة وهذه الأعاصير لا تكتفي بتدمير البنية التحتية بل تؤدي إلى فيضانات ساحلية هائلة وتشرد ملايين الأشخاص ومع استمرار ارتفاع درجات حرارة المحيطات فإن هذه الأعاصير ستصبح أكثر قوة وأطول أمدًا.
سياسات ترامب: هل تنقذ الاقتصاد أم تدمر الكوكب؟
بينما تتصاعد الحرائق وتتزايد الأعاصير وقف ترامب ذات يوم ليعلن بفخر انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس زاعمًا أن الاتفاقية "تقتل الاقتصاد الأمريكي" لكن ما لم يدركه ترامب هو أن هذه الخطوة أشبه بالدب الذي قتل صاحبه إذ إن تجاهل الأزمة المناخية ليس فقط خطأً سياسيًا بل هو كارثة استراتيجية ستجعل أمريكا أكثر عرضة للكوارث الطبيعية التي تلتهم الاقتصاد والموارد وتضع البلاد في موقف ضعف أمام العالم الانسحاب من اتفاقية باريس يعني بشكل مباشر تقليل الالتزام بتخفيض الانبعاثات الكربونية مما يزيد من سخونة الكوكب ويؤدي إلى تضاعف الكوارث الطبيعية والأمر الأكثر سخرية هو أن التكاليف الاقتصادية لهذه الكوارث تفوق بكثير ما كان يمكن أن يُنفق على التحول إلى اقتصاد مستدام.
أمريكا بين الإنكار والحقيقة
في كل مرة تضرب فيها كارثة جديدة نسمع نفس الخطاب: "سنعيد البناء" "سنقف أقوى" لكن الحقيقة هي أن إعادة البناء تصبح أصعب مع كل كارثة جديدة لأن البنية التحتية تتضرر والاقتصاد يُستنزف والناس يفقدون الثقة في قدرة حكومتهم على حمايتهم إن استمرار السياسات التي تتجاهل العلم والحقائق المناخية يجعل أمريكا في موقف يشبه ذلك الشخص الذي يحاول إطفاء النار بالنفط وبينما تواصل البلاد السير في هذا الطريق فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو إلى متى ستظل أمريكا تحترق وهل ستدرك أن الإنكار ليس حلاً بل هو الوقود الذي يزيد من قوة الكوارث القادمة.
رسالتنا استيقظي قبل فوات الأوان
حرائق كاليفورنيا وأعاصير الأطلسي ليست مجرد كوارث طبيعية بل هي رسائل تحذيرية صارخة بأن الوقت قد حان لتغيير المسار وإذا لم تتعلم أمريكا من هذه الدروس فإنها قد تجد نفسها في مواجهة مستقبل أكثر قتامة حيث تتحول من القوة العظمى إلى الدولة العظمى التي أهلكها إنكارها هل سيأتي اليوم الذي تقف فيه أمريكا لتقول: "كفى" وتبدأ في قيادة العالم نحو مستقبل أكثر استدامة أم أنها ستستمر في السير على نفس الطريق الذي يقود إلى مزيد من الكوارث الإجابة ليست فقط في يد السياسيين بل في يد الشعب الأمريكي الذي يجب أن يطالب بتغيير حقيقي قبل أن يتحول الحلم الأمريكي إلى كابوس عالمي.