الخميس 17 أكتوبر 2024

الدكتور عبد الله العوضي يكتب: الاقتصاد .. الأبيض

باور بريس

بعد الاقتصاد الأسود ( النفط ) و الاقتصاد الأخضر ( الطاقة النظيفة  ) ، هل يأتي زمن " يبيض فيه الاقتصاد ؟!
 أحد أسباب الصراع " الشرس " الدائر بين أميركا و الصين ، يمكن ادخاله في هذا الخط الاقتصادي الأبيض ، هذا الرمل شديدة الندرة ، لأنه لا يتواجد في أي مكان ، و هو في نفس الوقت المكون الأساسي لأشباه الموصلات في عالم التقانة الدقيقة . 
قبل الدخول في عمق هذه المادة الضرورية للصناعات التكنولوجية ، نعرف بشكل مبسط ماهية هذا الرمل المعجز لقدرات بعض الدول و نفاد صبرها حتى ساعة استيرادها . 
يتكون الرمل الابيض أو رمل السيليكا  ، المعروف أيضًا باسم رمل الكوارتز أو الرمال البيضاء أو الرمل الصناعي ، من عنصرين رئيسيين: السيليكا والأكسجين على وجه التحديد ، يتكون رمال السيليكا من ثاني أكسيد السيليكون (SiO2)  على الرغم من أن الكوارتز غالبًا ما يكون أبيض أو عديم اللون ، إلا أنه يمكن أن يأتي في مجموعة واسعة من الظلال. يعتمد لون كل رواسب رملية إلى حد كبير على مجموعة متنوعة من المعادن ومخلفات الصخور التي تشكل المورد.
لكي يتم اعتبارها رمل سيليكا ، يجب أن تحتوي المادة على 95٪ SiO2 وأقل من 0.6٪ أكسيد حديد. إذا كان الرمل لا يفي بهذه المعايير ، فسيكون مؤهلاً لما يسمى غالبًا بالرمل "العادي". 
هذا الرمل الأبيض ، قد يحول العلاقات الدولية إلى دخان أسود في لخبطة الأجواء السياسية بين بعض الدول العظمى و على رأسها أميركا و الصين .
فيختلط حابل السياسة بنابل الاقتصاد ، ناتج ذلك حرب باردة أو صراع جيوسياسي ، بسبب دخول حبات الرمال البيضاء بين مصانع التكنولوجيا المعاصرة ، و عصارة ذلك أشبه بالاقتراب من حدود الحرب الساخنة ، و لكن دون الضغط على زر السلاح . 
و مِن أغنى الدول الكبرى وفرة في الرمل الأبيض الصين ، و هي الدولة الخصم لأميركا و هي التي تمد تايوان بهذه المادة الحساسة اقتصاديا لإنتاج أشباه الموصلات قطب الصراع المثلث بين أميركا و الصين ، الصين و تايوان ، خاصة أن تايون هي مركز هذه الصناعة و لا يمكن لأميركا و لا للصين الاستغناء عنها و إليهما تذهب جلَّ الصادرات منها . 
و من مصادفة الجيولوجيا الأميركية ، أنها من أقل الدول حظا في وفرة هذا الرمل الأبيض في طبقات قارتها الشاسعة ، و هي تستورد هذا المعدن الخام من الصين، رغم وجود قرابة سبعين مادة أولية في عمق أراضيها . 
هذا الرمل الأبيض ، يمكن أن يحافظ على الوجه الأبيض لأميركا تجاه الصين ، و عدم الاشتباك معها في حرب عبثية خالية من أي مصلحة لكلا الطرفين .
و ليس هناك دولة واحدة تملك كل شيء و لو كانت بحجم أميركا  ، من هنا ينبغي التركيز على المصالح ، و هي لا تُجلب عبر إشعال الحروب ، بقدر ما تتحقق بتقريب المسافات بين الدول . 
من المنطق أن نمضي قليلا مع أميركا و الصين من خلال العلاقات الاقتصادية بين البلدين الذي يشتد بينهما التنافس على المرتبة الأولى في الاقتصاد فقط لا غير . 
و هذه المنزلة لا تُنال بخوض الحروب ، بل بالجلوس على طاولة المال و الأعمال ، بين يدي الأرقام و حسابات الفائدة للطرفين و الإتفاق على النسبة المُرضية و ليست المرَضية . 
الأميركان يتفاخرون بمقولتهم المشهورة كلما تناولوا الاقتصاد في أدبياتهم " إنه الاقتصاد يا غبي " ، أما أنا فأقول " إنه الاقتصاد يا ذكي " لماذا ؟!
لأننا نريد للمسار الإيجابي النطق بالاقتصاد يتقطر زلال مائه على الشعوب و ليس إلا ، و هو في خانة الإمكان و لو امتزجت بالصعوبات على أرض الواقع. 
سوف ألخص مسار الاقتصاد ، منذ  عهد ريجان حتى اللحظة الراهنة ، لكي ندرك حقيقة مفعوله بين الدول و يمكن القياس عليه إذا كانت أي دولة تملك قرارها المستقل في هذا الاتجاه و استعدادها لدفع مستحقات و استحقاقات ذلك القرار و تبعاته .
عندما كان هنري كيسنجر وزيرا للخارجية الأميركية في عهد ريجان ، كتب مقلا مطولا ينصح فيه الإدارة الابتعاد عن الصدام العسكري مع الصين ، و بدل ذلك الاستفادة منها اقتصاديا و كفى العالم بذلك شر القرار في الاقتتال .  
و لما حان دور بيل كلنتون في قيادة أميركا ، كذلك فضل عدم الاستغراق بالتفكير بالدخول في مواجهة الصين ، و استفراغ الجهد في بيع المشروبات الغازية ، بالإضافة إلى الوجبات السريع التي تدر المليارات من الدولارات على الاقتصاد الأميركي ، عوضا عن حرق البارود في مباخر الصين أو بواخرها . 
و جاء أوباما من أقصى عمق العنصرية السوداء ليحكم الألوان الأميركية كلها لفترتين متتاليتين في أعجوبة سياسية تناسب الشعب الاميركي ، و عند أول رحلة لهيلاري كلينتون إلى الصين كانت للحكمة الاقتصادية فصل الخطاب بين البلدين. 
قالت لنظيرها في الخارجية الصينية : إذا أصيبت واشنطن بالزكام ، فإن بكين تشتكي من الحمى ، و إذا عطست واشنطن ، شمتتها بكين ، نريد علاقة اقتصادية بهذا المستوى الكل رابح بصورة أو بأخرى . 
أما ترامب فكان ظاهرة سياسية فريدة ، فهو أول رئيس لا ينتمي إلى أي حزب حاكم ، و إن قام الحزب الجمهوري بترشيحه ، إلا أنه في حقيقته من " اللامتتمين " . 
في فترته  ، لم يكن الوفاق الاقتصادي حاضرا بين واشنطن و بكين ، بل زادت حرب الرسوم و الضرائب بينهما ، خاصة عندما اختل الميزان التجاري لصالح الصين حيث وصلت قيمة الصادرات الصينية إلى حوالي نصف تريليون دولار مقابل خمسين مليار دولار لصالح أميركا . 
أما ردة فعل ترامب على هذه الأرقام الصادمة للاقتصاد الأميركي ، جاءت في حزمة من الضرائب التي تسببت في حرب تجارية ، تعرقل في النهاية تطور العلاقات البينية و تؤخر تحرك قطار الاقتصاد عن وقته .
و فترة بايدن حصل ما هو غير متوقع في الحرب الروسية الاوكرانية ، من توتر شديد مع الصين بسبب وقوفها في صف روسيا ، إلا أن صوت الاقتصاد كان هو الأعلى . 
و في هذا الصدد صرح مسؤول أمريكي، لوكالة "رويترز":  بأن إدارة بايدن تعتزم حذف بعض الكيانات الصينية من قائمة "التجارة الحمراء" قريبًا، وسط تعاون أوثق من بكين . ( 15/12/2022 )
نواصل القول ، بأن الرمال البيضاء هي جوهر الصناعات المعاصرة تستخدم فى صناعة الزجاج ورقائق السليكون والعدسات ، تتواجد بمصر بوفرة وبجودة عالية بخليج السويس وساحل البحر الأحمر وسيناء.. وطرحت بالمزايدة العالمية للبحث عن المعادن . 
و يتوقع متخصصون أن حجم الاستثمارات التي تحتاجها مصر لاستغلال هذه الثروة تقدر بنحو 2 مليار دولار ، تتمثل في إقامة مصنع لمنتجات السليكون و الزجاج.
هذا و يبلغ احتياطي مصر من هذا الرمل  نحو 20 مليار طن ، موزعة على صحاري مصر المتنوعة من شمال سيناء إلى جنوبها ، و صحراء مصر الشرقية و الغربية .
و كانت مصر قد حظرت تصدير الرمال البيضاء كمادة خام خارج مصر، للحفاظ على هذا المورد غير المتجدد و احتياطي مصر منه، منذ عام 2016 ، حيث قررت الحكومة منع تصدير الرمال البيضاء باعتبارها ثروة قومية. 
و من بعد مصر تأتي السعودية كمصدر غني للرمل الأبيض حيث تشير بعض المصادر العلمية إلى أن تركيز السيليكون في رمال بعض مناطق المملكة يصل إلى %99.9. فالرمال في المملكة تُعد من أجود الأنواع التي ترسبت خلال الزمن، وهي تخلو من الشوائب التي تضر بالصناعات الدقيقة، مثل صناعة رقاقات السيليكون للأجهزة الإلكترونية.
وتؤكد المعلومات  على أن أكثر من 10 آلاف مليون طن من الرمل الأبيض في السعودية، يحتوي على عنصر السيليكون.
وتوضح معلومات وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية في المملكة، بأن هناك نتائج سلبيةً تترتب على استخراج الرمل. منها أنه يقلّص الغطاء النباتي الذي تكوّن منذ آلاف السنين، ويقضي على البيئة الطبيعية لبعض أنواع الحياة الفطرية، ويؤدي إلى زيـادة التصحر وارتفاع مستوى انتشار الغبار الذي يؤثر على الصحة العامة.
ونتيجة لذلك، حظرت المملكة تصدير الرمل والحصى خارج المملكة. 
ساد الاعتقاد إلى وقت قريب أن هذا المورد الطبيعي وافرٌ بغير حدود، فإن ازدياد الطلب عليه باطراد، خاصةً مع بداية القرن العشرين، جعلنا نستيقظ على حقيقة أنه آخذٌ بالنضوب وغير قابلٍ للتجدُّد. وهذا ما دفع معظم حكومات العالم إلى سن القوانين الضابطة لاستخراج الرمال والاتجار بها. 
كما أن بعض أوساط الأعمال والباحثين بدأوا في الفترة الأخيرة بالبحث عن بدائل لاستخراج الرمل، تمثَّلت بإعادة تدوير بعض مواده، كالخرسانة خارج الاستعمال والزجاج وغيره، وصولاً إلى تصنيعه.