دكتور عبد الله العوضي يكتب: غزة .. و تجزئة العولمة!
" العولمة " ، المصطلح الذي دغدغ عقول العالم و مشاعره لقرابة عقدين من الزمن ، و يمكن لي تقريب التاريخ ، من 1990 إلى 2010 ، أما بعد ذلك فقد قُطّعت أوصالها تقطيعا .
بعد ذاك التاريخ المنتعش ، حلت الفوضى في العالم أجمع مكان العولمة ، بدليل ما يجري في المنطقة و الإقليم و ما وراء البحار و المحيطات ، و هي ليست لها علاقة بمنجزات " العولمة " بل دمرت معظمها و البقية في الطريق .
قبل عقدين تقريبا من الآن صدر كتاب جميل عن " العولمة " تحت عنوان " لكسز و شجرة الزيتون " لمؤلفه المعروف " توماس فريدمان " كاتب العمود في الصحف الأميركية حتى الآن .
من هذا العنوان لا يمكن معرفة موضوع الكتاب ، فهو عكس مقولة : أن الكتاب يعرف بعنوانه ، ولو كان كذلك لما قرئت الكتب و ل تم الإكتفاء بعناوينها .
من الإنصاف القول بأن الكتاب بالنسبة لي على الأقل من أفضل ما كتب في موضوع " العولمة " في الغرب ، و لكنه لم يصمد محتواه لحظة أتت لتجزئة " العولمة " الشاملة في كتابه .
من غرائب و مصادفات الأقدار ، بأن الكاتب ضرب في كتابه مثلا "بغزة " قبل عقدين يوم أن كانت محاصرة لسبعة عشر عاما ، و مع ذلك يقول بأن العولمة قد تسللت إليها عن طريق سيارات ال " لكسز " و كل أنواع الهواتف النقالة و حتى التي تعمل عبر الأقمار الاصطناعية.
و أراد بذلك إثبات أن " العولمة " لم تستثن حتى البقع الساخنة من العالم المضطرب ، إلا و قد حطت رحالها فيها و ضربت أركانها في عمقها .
أيضا من حسن الحظ ، أني قد دعيت قبل أكثر من عشر سنوات ، إلى مؤتمر بإمارة دبي ، كان " فيه فريدمان " المتحدث الرئيس ، و قد سررت بذلك بعد أن قرأت له سابقا و لا زلت ، و لم اسمع له حديثا مباشرا من قبل ، فجاءت الأقدار لتفعل فعلها و تسمعنا ما لم نقرأ عن هذا الرجل الضيف في بلدي .
لقد مُنح هذا الكاتب رجل العولمة حرية التعبير في المؤتمر كما هو الحال في أي مجتمع غربي و أمام معطم المسؤولين بالدولة .
لقد قدم نفسه للجمهور على أساس أنه يهودي و كاتب مرتزق يكتب لمن يدفع ما يريد ، كلام مستفز منذ البداية حقا و مع ذلك استمر في الحديث دون مقاطعة من أحد ، و عندما انتهى و حان وقت الأسئلة و التعقيبات ، عند أول تعقيب من أحد الحضور ، فر هاربا من المسرح إلى خارج القاعة ، و السائل يناديه بأعلى صوت : أين حرية التعبير و نحن في زمن العولمة ؟! و المسؤول عن المؤتمر يحاول جاهدا إعادته إلى المنصة !
إذن قد تبين من اعترافه بأن كتابه عن " العولمة " كان من أجل الارتزاق فحسب ، لقد خدعنا لعقود و اليوم ندفع الثمن في غزة العزة التي دمرت فيها كل أدوات العولمة التي ذكرها فريدمان في كتابه و قد بانت نتائجها الآن في سحل و سحق و إبادة الشعب الفلسطيني بأدوات العولمة ذاتها .
و كذلك اليوم ذاق قرابة ثلاثة آلاف لبناني مرارة طعم " البيجر " المفخخ ، و هي من أدوات العولمة رغم أن الزمن قد تجاوزتها و لكن يد الغدر و المكر و الخداع وجدت ضالتها فيه فلا ضير حينئذ من المضي في تجريبه ضد العرب والمسلمين!
فلنستمع الآن إلى أشهر خطبة من القرن الثامن عشر ، و على لسان عاشق الشرق و مسحوره الفيلسوف الفرنسي " لامارتين " حين قال: " إن الدول تزعم أنها تريد أن تخلق من جبال لبنان سويسرة أخرى في الشرق، فاحذروا أيها السادة أن تجعلوها بولونيا أخرى "
عندما تم الترويج للعولمة آنذاك كانت مغلفة برقائق الحرية و الديمقراطية و التعايش السلمي بين الشعوب من خارج أسوار المعتقدات الدينية و العرقية و الطائفية.
و عندما ابتدأ فريدمان حديثه هناك قال : أنا يهودي ، و لم يطلب منه أحد هذا التعريف ، و قد نسي العولمة و أخواتها و ذكر دينه الذي أوصى الآخرين بتجاوزه ، لقد كشفت العولمة عن حقيقتها و خلعت رقائق ثيابها في فلسطين أرض المرحمة التي تحولت اليوم ساحة مفتوحة للملاحم ؟!