دكتور عبد الله العوضي يكتب: سلام " شرم الشيخ " المستدام
هذا العام 2024 ، باعتراف العالم أجمع ، بأن محافظة " جنوب سيناء " و محافظها اللواء الدكتور خالد فودة و فيروزتها مدينة " شرم الشيخ " قد حققوا اختراقا عميقا باتجاه السلام و السياحة المستدامة .
" أفاسو "
عندما نالت جنوب سيناء دروعا ثلاثة في ضربة معلم تنموية مستحقة من قِبل الاتحاد الافريقي الآسيوي " أفاسو " الذهبي لأفضل قائد للتنمية السياحية وأفضل جهة سياحية آمنة على العالم .
السياحة و الأمن و التنمية فرسان رهان و لا يسبق واحد منهم الآخر ، و لا يتقدم أو يتأخر عنصر على الآخر أيضا ، لماذا ؟!
هذه العوامل الثلاثة هي أعمدة التطور والنماء في أي دولة عميقة لديها رؤية ، فقْد أي عنصر ، يعنى فقد كل محفزات المستقبل .
السياحة .. القوى الناعمة
السياحة ، تعتبر أحد أهم القوى الناعمة للدول التي تتميز بوجود الطبيعة الخلابة فيها ، و الأماكن التي لا يمكن استنساخها في الدول الأخرى .
يسيح لعاب بعض السياح و يسبح لسان البعض الآخر لكل جديد مبهر و معجز ، و لا أعني به المعاصر الحديث أو المتطور ، بل هو ما يضيف إلى رصيده المعرفي نوعا آخر من الترفيه مما يريح نفسه و يرتقي بعقله .
كلما كان الأثر له معنى ً ضاربا في القِدم و غابرا في الزمن و سحيقا في التاريخ ، كان تكرار سياحة البشر إليه دائبا و مستمرا و لا يمل منه من تذوقه ، فليس من ذاق كمن عرف .
كما منح الله سبحانه الأمان لمصر منذ الأزل في محكم آياته " وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99 - يوسف) ، و هي البلد المحصنة منذ القِدم .
و كذلك وفر لهم سبل العيش الكريم " ( اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ ۗ .. ) 61 البقرة .
منذ الأزمنة البعيدة و هب الله مصر خيرات الأرض و أهم خيرين هما الإنسان ، " و هذه الأنهار تجري من تحتي " فيها سر الحضارة الفرعونية ، و كذلك بقية الحضارات التي انبثقت من بين ثناياها " النيل " قرابة مليون كيلومتر ينقذ مئات الملايين من البشر على امتداده من العطش و الجوع و ذل الحاجة .
لن أوسع دائرة الحديث ، سوف أركز الكلام حول تجربتي الشخصية في محافظة جنوب سيناء و التي استمرت لثلاث سنوات متقاربات .
عندما تكون المعالم السياحية من خلق الله و يقوم مخلوقاته بتعميرها و إضافة اللمسات الإنسانية عليها ، تتحول إلى أيقونة يتحدث عنها القاصي و الداني ، السائح و المقيم و كل عابر طريق .
نِعمة " خليج نَعمة "
معجزة النيل في كفة و فيروز البحر الأحمر في كفة أخرى " خليج نعمة " ، و ما أدراك ما " خليج نعمة " ، حقا " نِعمة " مضافة إلى شعب مضياف .
أحسب أني من الذين زاروا و سافروا إلى عوالم خلابة كثيرة ، و لكن هذه البصمة " الفيروزية " لم تأخذ بلبي إلا عندما وطئت قدماي هذا " الخليج " الفريد .
هل رأت عينك شاطئا يلفه اللون " الفيروزي " بالكامل و عالم السياح تهرع لتكحل عينيه به ؟!
و الأكثر جمالا و غرابة ، في وسط عمق لا يقل عن نصف كيلومتر ، و في أوقات معينة ينحسر الماء و يظهر جزءا من القاع ناصع البياض يسعى السياح لانتهاز فرصة المشي عليه ، و يتكون حول تلك البقعة محيط فيروزي يعجز سحر البيان عن وصفه إلا بالتسبيح و البعض بالسباحة حولها و الغوص في أعماقها .
إننا أمام مشهد لم تتدخل يد الإنسان فيه قيد أنملة ، فهي معجزة يستحيل صناعتها إلا في مثل هذا المكان .
هذه واحدة من المظاهر الجغرافية في البحر الأحمر التي وقفنا مندهشين أمامها ، و ملايين السياح في العالم يتنافسون على امتاع أنظارهم بها .
معجزات .. في ثلاث !
" كاترينا " من كاتدرائية إلى مدينة متكاملة من تسع مدن تتكون منها محافظة " جنوب سيناء "
يحج إليها اليهود و النصارى و يصلي في مسجدها المسلمون ، لقد التأم في هذا المكان شمل الديانات السماوية الثلاث في بوتقة سلام دائم ، و لم يحدث ذلك في تاريخ البشرية إلا هنا في أرض سيناء المباركة .
أقول أيضا للتاريخ ، بأن الأديان لا تتصارع و إنما من يسيسها وفقا للمصالح المتضاربة يجعل منها أداة لإشعال الصراعات السياسية الدامية ، و الأصل أن تكون الأديان سياجا حاميا لتحقيق سنة التدافع في هذا الكون الفسيح الذي تضيق به قلوب بعض الانظمة المتطرفة المنتمية لتلك الأديان .
حتى في ذروة حرب غزة ، الشاباك والجيش حذرا من تحويل الصراع إلى ديني وطالبا بالابتعاد عن الحرم القدسي في رمضان ( القناة 13 الإسرائيلية - 2/3/2024 )
ماذا يجد الزائر أو السائح في هذه المدينة التي ترتكز فيها أعمدة المعجزات و في هذه البقعة من الأرض فحسب ، و لا توجد لها مثيلات في بقية الدنيا إلا هنا ؟!
" كاترينا " الأيقونة " التي انتقلت من " الوثنية " الظالمة أهلها " إلى النصرانية " الكاثوليكية " السمحة معتنقيها ، و أقباط مصر من هذا النبع الذي وصل سلالته إلى مارية القبطية التي تزوجها النبي المصطفى العدنان ، وقد أصبحت من ذلك الوقت أمنا و أم المؤمنين و العالمين من حولنا .
هذا المعنى مهم في هذا السياق ، لأننا نعيش زمنا يريد البعض أن يفرض رؤيته للدين و تنصيبها حكما و حكما قاطعا على البشر .
جميع الأديان السماوية بينها رحم لا يجب أن تنقطع، و هي ليست أقل أهمية من أرحام الإنسان .
الإسلام و إن كان خاتم الأديان ، إلا أنه ليس حكما عليها ، و كذلك لا يحاكمها ، بل وظيفته الرئيسة مد يد التعايش إليها ، و تصل هذه اليد الممتدة بالخير إلى جميع الأديان حتى المخترعة من قِبل البشر فلا ضير ، لأن ميزة الإسلام الفريدة عن بقية الأديان ، أنها قادرة على احتواء الجميع و إن كان البعض لا يؤمن بأي دين .
" كاترينا " .. الشهيدة و الرؤية ؟!
ماذا فعلت الوثنية ل " كاترينا " ، بعد الإعلان عن دخولها الديانة " النصرانية " ؟!
لقد جازتها " سنمارا " ، بل اصطادوها و قادوها إلى رؤوس الجبال الشاهقة الارتفاع لقرابة 3000 آلاف قدم فوق سطح البحر .
فعملوا فيها تقطيعا ، و وضعوا على رأس كل جبل منها جزءا ، فنكلوا بها تنكيلا ، فأبت أن تعود مرة أخرى إلى " الوثنية " بعد أن ذاقت حلاوة الإيمان ، و قد صدق فيها قول الشاعر :
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني .
و لكن الله لم يدعها نكرة ، بل سخر لها أحد الكهنة ، ليلهمه رؤية في إحدى الليالي ، ليبصره مكان أوصالها الموزعة و المدفونة على رؤوس الجبال الراسية ، فصحى الكاهن مذهولا من نومه ، يسارع الخطوات في تسلق الجبال ، حتى اهتدى إلى مكان رأسها و كف من يدها ، و قد أعادها إلى الكنيسة التي سميت بعد ذلك باسم القديسة " كاترينا " إحياء لذكرى إيمانها بالمسيحية و التضحية بنفسها ليحيا دينها و كان الثمن في " استشهادها "
لقد حفظ رأسها و كفها في صندوق محكم الإغلاق خشية الفقد ، لا يفتح إلا في مناسبات دينية خاصة لمن أراد أن يلقي نظرة عليها من الحجاج أو السواح و الزوار أو العابرين على المكان باستعجال.
فضل الكليم .. على الإسلام
نلحظ ذلك في حادثة الاسراء و المعراج ، المعجزة التي رآى فيها المصطفى ، ما لا عين رأت ، و لا أذن سمعت ، و لا خطرت على قلب بشر .
أثناء نزول الرسول صلى الله عليه وسلم من السماوات السبع التقى في طريقه بنبينا موسى عليه السلام ، و هاكم القصة من مصدره .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَأَوْحَى اللهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ "، قَالَ: " فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، خَفِّفْ عَلَى أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، قَالَ: " فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً "، قَالَ: " فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ "، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ رواه مسلم ( islamqa.info )
أنظر إلى أهمية تراكم الخبرات لدى موسى عليه السلام الذي لم يبخل بها على خاتم النبيين و سيد المرسلين، فأنقذ أمته من عنت لا يطيقونه ، إلى درجة أن موسى رآى بأن خمس صلوات بعد التخفيف كثير ، ألم يقل المولى سبحانه في محكم آياته عن بعض المسلمين " و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى .. " و هذه خمس فحسب فكيف لو كانت خمسين و لم يستدرك موسى الأمر على نبينا الأغر ؟!
مجمع للأديان .. منذ القِدم !
في هذه البقعة المباركة و داخل سور واحد ، كنيس ، و كنيسة ، و مسجد ، منذ عهد موسى و عيسى و أحمد ، عبر ألوف السنين ، و عبور المؤمنين بمختلف الأديان الثلاثة ، يلتقون هنا و يحجون لعبادة رب واحد كل حسب معتقده .
لم تختم الأديان بالإسلام ، إلا لكي يكون درعا واقيا لهم من صروف الدهر و تقلباته ، و ليس لإزالتها من أمامه .
لذا رأينا المسجد الذي بناه الفاطميين حاضرا في هذا المكان المقدس ليوفر غطاء صلبا و دفعا قويا لمن تحدثه نفسه للاعتداء على المقدسات الثلاثة "
و في هذا مصداق قوله تعالى
" .. وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ .. " ( الحج - 40)
غرفة .. المنجاة
بنيت في ذات المكان غرفة صغيرة تحدد المربع الذي تكلم الله سبحانه مع نبيه موسى عليه السلام ، موقعه ليس داخل المعبد و لا في الكنيسة و لا كذلك في المسجد يمكن للمسلم أن يصلي فيها مستحضرا ذلك الموقف المهيب بين العبد و ربه ، مع اختصار الزمن الغابر في لحظات من التجليات التي يستشعر المرء بها ، و يقرب المسافات و يذيب الأزمنة و الأمكنة في تلك الزاوية المحصورة بين دور العبادة الثلاث .
يشعر بعض المصلين في هذه البقعة المبارك بالقشعريرة الايمانية ، وفقا لدرجة استشعاره لوحي الزمن الممتد لآلاف السنين التي وصلت إليه أثناء وقوفه بين يدي الله معبرا عن شكره و امتنانه الشديد لهذه النعمة المهداة لنا عبر التاريخ السحيق و التليد .
إننا أمام موقف لا يتكرر إلا بالسفر إلى هنا لانغماس الفرد في وحي الكون الأعظم .
القبس
القبس الذي لفت انتباه موسى عليه السلام في الشتاء القارس ، بحثا عن لحظة دفء لأهله و قومه ، حيث كان اللقاء الخاص مع الله هنا لا غير .
الذي سجل هذا الحدث الفريد رب هارون و موسى ، ( وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى ، إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى ) طه الآية : 1-2
و أكد ذلك سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز ( فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) القصص
من هنا أخذ موسى هذا القبس من التدفئة في الوادي المقدس " طوى " حيث استقر القوم من أجل الراحة و استعادة القوة للمسير الطويل و الشاق .
فلما عاد مرة أخرى لجمع المزيد من جذوة النار الدافئة و ليست الحارقة ، هنا عجزت المفاجأة و المعجزة التي نقلت موسى من الإنسان إلى الرحمة المهداة لبني إسرائيل الذين زادوه عنتا لقرابة قرن و نصف القرن من حياته الحافلة بتلبية طلبات هذا الشعب المدلل حتى في فترة التيه التي استمرت أربعين عاما ، في نهايتها رفضوا وضع أقدامهم فحسب عند باب الأرض المقدسة " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون .. "
بالرغم من أن الله سلّح موسى بكل أدوات الإعجاز ، مع تلبية كل احتياجات بني إسرائيل من ربه ، و لكن النتيجة كانت دائما صفرية .
هذا المكان المبارك الذي وقفنا فيه ، نفس المكان الذي اختلى موسى بربه ، و عند عوته لجلب المزيد من هذا " القبس " ، فوجئ موسى بقبس نوراني آخر بانتظاره .
نتدبر هذا المشهد المصور في القرآن الكريم بإتقان ( فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّىٰ مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ۚ يَا مُوسَىٰ أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ ۖ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ ۖ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ( 32 ) القصص .
و نكمل هذا الموقف المفاجئ لموسى من سورة طه في قوله تعالى " فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى ، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى ، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ، إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ، فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى ، وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ، قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى ،فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى ، قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ، وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى ،اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . ( سورة طه 1-24 )
عندما أصبح موسى قريبا من ربه و هو يكلمه مباشرة بلا وحي و لا أي وسيط آخر ، اشتاق لرؤيته سبحانه .
" وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ " ( الأعراف- 143)
تخيل هذا المشهد الذي تجلى فيه سبحانه للجبل الذي وقع عن علو ثلاثة آلاف قدم فوق سطح البحر ، و اسود لونه و أصبح بارزا بين سلسلة الجبال الملاصقة من حوله ، فكيف بموسى ألا يخر صعقا و لا يتوب من هذا الطلب الجلل ؟!
هذا الجبل الصامد حتى الساعة ، و الشاهد الشامخ على عظمة المولى في تجليه .
و في موضع آخر من كتاب الله سبحانه " وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَّا تَرَىٰ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ ۖ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَٰنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) ( طه )
معجزة .. " العليقة " !
الشجرة المذكورة في الآيات السابقة ، ماثلة أمام أعيننا ، لم تتزحزح قيد شعرة في ذات المكان .
أما وجه الإعجاز فيها ، بأنها معلقة في السماء بلا جذور ، و بلا اسم و بلا نسل جديد ، فهي وحيدة فريدة من نوعها ، يسميها أهلنا في مصر " الشجرة العليقة " ، مغروسة من حولها في صخرة ضخمة من تحتها ، و بين فواصلها أدعية و أماني القادمين لرؤيتها .
لقد حاول خبراء الزراعة استزراعها عن طريق المختبرات العلمية ، و لو من تحتها ، فلم يتمكنوا من ذلك ، و قد بحثوا عن الفصيلة التي تنتمي إليها ، فلم يجدوا لها سبيلا .
بل الأغرب من كل ذلك ، بأن هذه الشجرة مطبوعة على صخرة ضخمة من صخور تلك الجبال الراسية ، و قد حاول البعض التشكيك في هذا الإعجاز المركب ، فلم يفلح ، لأنه كلما قطعت شريحة من ذات الحجر ، تجد الشجرة مرسومة في باطنها ، أي نحات أو رسام وفنان يستطيع فعل ذلك مهما بلغ من الحرفية في مهنته .
هل زرت مكانا على وجه الأرض فيه هذه المعجزات المتواليات ، فهي لا توجد إلا في جنوب سيناء و في مدينة " كاترينا " على وجه التحديد ، و لا تظنن أيها المتابع بأننا اكتفينا بهذا فلو كان كذلك لانتهينا !
صبر موسى.. و فخ " العجل " !
حقيقة العبرة تبدأ من هنا ، حين اختلى الله سبحانه بنبيه موسى و هو يكلمه أربعين يوما في تجليات لا ندرك وصفها ، و كان بالمقابل في تلك الفترة الزمنية يحيك " السامري " لقومه فخ " العجل " الذي و قعوا فيه و عبدوه من دون الله ، فقط بمجرد غياب موسى عنهم و هم يعلمون أين هو و بين يدي من ؟!
و لكن مع ذلك انطلت عليهم حيلة " السامري " ، فأذاقهم شراب " العجل " كما وصفه القرآن " و أشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " ( البقرة الآية 93 )
لم يصبروا على موسى أربعين يوما فقط ، بل بدلوا خلالها دينهم رغم أن النبي هارون عليه السلام كان بينهم .
أين المعجزة في هذا المكان إذا ؟! لقد طبع الله " العجل " على قمة جبل طوله قرابة 2000 قدم فوق سطح البحر يحتاج الفرد للصعود عليه ساعتين تقريبا ، و كذلك جاء النحاتون لرؤية هذا " العجل " المعبود لينفوا عنه فعل البشر ، و أكدوا بأن هذا النحت رباني صرف ، سبحان الذي لا يعجزه شيء في الأرض و لا في السماء .
كما تحدثت قبل قليل عن ظاهرة انحسار الماء في أعماق البحر الاحمر ، توجد هنا ظاهرة أخرى لا يمكن ملاحظتها إلا بعد وقت دخول الفجر ، لأنها متعلقة بالشمس .
المطلوب أولا صعود هذا الجبل لرؤية شروق الشمس من أسفل الجبل لا من فوقها ، فمن يريد رؤية هذه الظاهرة الطوبوغرافية عليه أن يمكث الليل هنا و إلا لن يراها في أي مكان من فوق هذا الجبل فحسب .
كما أنك لا تستطيع رؤية قرص الشمس في كامل دائرتها و هي تغيب تغوص في الماء إلا في جزيرة " فوكيت " بمملكة تايلاند ، حيث يهرع إليه السياح للاستمتاع برؤية أكبر قرص للشمس على وجه البسيطة عائمة هانئة و هي تغوص عنا بعيدا لتكتمل معها دورة الليل و النهار في كل مكان .
التيه .. الأبدي ؟!
لا زلنا ماضون مع بني إسرائيل ، و خاصة أنهم يخوضون معنا حربا لم يطفأ أوارها بعد لأننا جزء من فلسطين في هذا الصراع الذي لا علاقة له بالدين ، فقط بالسياسة التي تريد بها إسرائيل إلصاقها بالتوراة و التلمود زورا و بهتانا و مع إيماننا التام بتزويرهما على مر السنين إلا أننا مع ذلك نوقن أيضا بلكم دينكم و لي دين .
على بعد أربعين كيلومترا من مدينة " كاترينا " ، هناك قرية تسمى " التيه " ، كل سكان هذه القرية تائهون منذ تيه الأربعين سنة مذ عهد موسى .
هؤلاء ذرية من بقي من القوم التائهين ، و كأن الله سبحانه و تعالى ، حول " التيه " إلى جينة يتذوقون مرارتها ليس في هذه القرية فحسب ، بل في ذات إسرائيل .
و الدليل القاطع في سبعة أكتوبر 2023 ، فمنذ ذاك الوقت و حتى هذه الساعة هاجر أكثر من مليون إسرائيلي إلى الشتات الأوروبي و الأميركي و البقية في الطريق .
ما هي مواصفات بقايا سكان التيه في هذه القرية المعجزة أيضا مع أن البعض منهم أسلم أو تنصر ، و لكن الذي يجمعهم " التيه " لا زالوا تائهين لا يدركون الزمان و لا المكان ، لا يعرفون الوقت إن كان صباحا أو مساء ، فهم هكذا يدرون حول أنفسهم بلا وعي و لا إدراك إلى درجة أن أصبح " التيه " مرضا مزمنا لا يفارقهم .
أما إسرائيل الدولة الآن في أزمتها الراهنة أكثر توهانا من أصحاب تلك القرية القابعة في بطون الجبال .
لماذا ؟ لأنها تمارس الانتقام الذي لا علاقة له بفعل السياسة المعتبرة في مقابل أي دولة أخرى على مستوى العالم .
فهي منذ وجودها جبرا ، لم تستطع أن تجبر خاطر الفلسطينيين الذي احتلتهم بقوة السلاح ، و ليس بقوة الحق التي لا تعترف بها و إن اعترف العالم كله بهذا الوجود المنبوذ .
منذ 1948، و إلى هذه الساعة السادية من التيه السياسي ، فهي لم تعش في مأمن ممن حولها ووضعت كل أنواع السياج المادي و الإلكتروني و العالمي ، و لم تستطيع الخروج من نفق التيه المتجدد.
منتجع .. التجلي
الآن جاء دور السلطات في مصر لإضافة معلم سياحي جميل لتسهيل وصول هذه التجليات لكل زائر دون عناء .
لقد بدأت محافظة جنوب سيناء بالعمل في بناء منتجع بانورامي في الوادي الذي يقابل كل تلك المعجزات في هندسة رائعة تجعل من المقيم في هذا المنتجع يستمتع برؤية كل مراحل التاريخ في تلك البقعة المباركة و هو في مكانه يرى بناظريه مباشرة الجبل الذي انهار أمام نور الخالق سبحانه ، و كل التفاصيل الأخرى من حوله .
و من المتوقع الانتهاء من هذا الصرح العمراني اللافت للأنظار في شهر ديسمبر 2024 ، كجزء من مشروع سياحي يساهم في عملية استدامة القوى الناعمة السياحية للدولة المصرية العميقة .
و قد كان الرئيس الأسبق لمصر محمد أنور السادات رحمه الله ، يعتكف العشر الأواخر من رمضان في هذه البقعة المباركة من أرض سيناء .
و في حفل التتويج الباهر ، أعجبتني كلمات المتحدثين ، إلا أن كلمة وزير السياحة في موريشيوس كانت لافتة ، حيث ركز على معنى جميل و لطيف يتعلق بالصعود إلى القمة ، حيث أشار إلى أن الوصول للقمة ، يجب ألا تنسينا " الإنسانية " من تحتها .
و هذا الكلام يتوافق مع أدبياتنا في التراث عندما ذكر أحدهم بأنه عند صعود الجبل ينبغي ألا نلتفت إلى الخلف ، لأن في كل إلتفاتة تأخيرة ، و إذا ما وصلنا إلى القمة ، قالحفاظ عليها أصعب من الوصول إليها.
هنا نحتاج فعلا إلى مشاريع مستدامة للبقاء في القمة لأطول فترة ممكنة عبر التمسك بتنمية إنسانية الإنسان على الدوام فهو الضامن الأكبر للحفاظ و البقاء في القمة .