الأحد 22 ديسمبر 2024

دكتور عبد الله العوضي يكتب :المحتل .. المختل ؟!

باور بريس

 

نبدأ بالبداهة الأولى ، في محو أمية الفكر الذي طم هذا الزمن المعتل ،  فنقول : إذا وجدت رجلا مختلا يشق الطرقات ، عابثا بأرواح الناس ، و معيقا  لأي خطوة توقفه عند حده ، فما هو الإجراء الأحوط و الأسلم لمثل هذا المختل ، أليس الحجْر عليه هو أولى الأولويات   ، أم ترك الحَجَر بين يديه يرمي به من يشاء كيف ما شاء في مشهد عبثي ، هذا ما يجري في غزة حتى اللحظة ؟!

أكثر من .. 90 قرار

هذه هي إسرائيل ، المحتل المختل ، الذي أصدرت الأمم المتحدة أكثر من 90 قرارا يشهد على اختلال ميزان الاحتلال لديها منذ أن غرست أسنانها في جسد المنطقة لفرض وجودها كأمر واقع يجب على العالم بلع طعمها و لو دون التمكن من هضمها . 
السابع من أكتوبر 2023 ، أخرج من قلب العالم المتقدم أفضل ما فيه ، بعض " الانصاف " في حق القضية الفلسطينة. 
في الوقت الذي يعيش بعض الأنظمة و النخب العربية في أحلام " السلام " و البعض الآخر في أوهامه .
في  زمن  الصورة التي تفقأ العين  ، يمارس الاعلام العربي العمى في تغطية ما يجري في غزة ، و قد اضطر الإعلام الإسرائيلي و الغربي في كشف الغطاء عن الأكاذيب المختلقة في إدارة الحرب النفسية الفاشلة على كل الأصعدة .

تحييد .. الصراع

لقد تم تحييد الصراع العربي الاسرائيلي منذ كامب ديفيد و اتفاقيات التطبيع مع بعض الدول العربية و أخرى في طريقها إلى ذلك .
كان الصراع ممتدا في عمق العالم الإسلامي قبل أن يستحدث العالم العربي ، فمع مرور السنوات العجاف على أصل القضية الفلسطينية ، تطورت سلبا من حقها في دولة مستقلة حتى تقزمت  إلى سلطة فلسطينية تحفر الأرض بأظافرها ، لكي تمن عليها إسرائيل فقط لا غير بدولة مستقلة وفق مزاجها المتقلب .
هذا و قد مر على عملية المن من دون سلوى قرابة 75 عاما ، تم خلالها نزع دسم الزيتون منها حتى جفت عروقها ، و لم تنبت شجرها .
وضع الصراع تدريجا بين يدي الفلسطينيين أنفسهم عندما رفعوا راية غصن الزيتون عاليا و المسدس سافلا من أجل السلام الموعود دوليا و عربيا و لم نجد حتى الساعة له جذرا في الأرض و لا نورا في السماء .
نعم لقد تم تسليم راية الصراع جملة و تفصيلا للفلسطينيين ، فاحترقت أيديهم بها في حرب داخلية ، أنتجت حكومة في غزة عنوة منذ قرابة 18 عاما ، و الوضع يتفاقم بين حكام غزة و حكام إسرائيل ، بعد أن تم تحييد السلطة في الضفة و كأن الصراع لا يعنيها ، فهي منذ أسلو 1993  بانتظار دولة المن و السلوى من إسرائيل ، فكان الحصاد مرا و علقما في غزة و الضفة معا . 
بعد " طوفان الأقصى " السلطة أرادت من إسرائيل تفريغ غزة من " حماس " ، و من ثم تسليمها للسلطة لإدارتها ، كأن لسان حالها يقول  " إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها " 
ضاق الصراع أكثر حتى أصبح شأنا " غزاويا ، بل " حمساويا " ، من هنا يأتي إصرار إسرائيل على التخلص من  " حماس " و لو كان الثمن إبادة شعب غزة بأكمله .  

" العربي الجيد .. العربي الميت " !

أما الحديث عن " السلام " فقد طال أمده أكثر من اللازم ، و لا توجد قوة حتى الآن تستطيع إلزام إسرائيل على المضي تجاهه ، رغم التنازلات العربية و آخرها " التطبيع " بلا مقابل يفيد القضية و يوصلها إلى ميناء الدولة المستقلة، و يكفي  " بيجن " تسميته ب " بسلام القبور " و تطبيقه في مشهد غزة قمة الحضور !
و السلام لا زال مطروحا على الطاولة و لم يتم دفعه للجلوس على الكرسي بعد ، و حمامته ذبحت في غزة مع قافلة الشهداء و الجرحى والمصابين. 
نذكر أصحاب الذاكرة القصيرة 
ب " مارتن أنديك " ' اليهودي الأسترالي الذي قاد مظاهرة في سيدني يهتف فيه بشعار " العربي الجيد .. العربي الميت " . ( 30/7/2018 )
من مارتن هذا ؟!
هل تتوقعون بعد هذا ،  بأن يكافأ بتعيينه مبعوثا للسلام في الشرق الاوسط ؟!
مارتين إنديك (Martin Sean Indyk). سياسي أميركي والسفير الأميركي لدى  إسرائيل لفترتين امتدتا من أبريل 1995 إلى سبتمبر 1997 ومن يناير 2000 إلى يوليو، 2001. عيّنه الرئيس الاميركي مبعوثا للسلام في الشرق الاوسط في يوليو عام 2013. وهو حاليا نائب رئيس ومدير السياسة الخارجية في معهد بروكينجز في واشنطن العاصمة .
ولد لعائلة يهودية بريطانية ولكن انتقلت إلى أستراليا وهاجر بعد إتمام دراسته في  جامعة سيدني إلى الولايات المتحدة وحصل على الجنسية الاميركية عام 1993. وهو عضو في جماعة الضغط اليهودية في الولايات المتحدة إيباك. يعتبر إنديك السفير الاميركي الوحيد الذي ولد لأصول أجنبية وعمل كسفير في إسرائيل.   ( ويكيبيديا)

شماعة .. التطرف!

جاء الزمن العربي ليساير الغرب في مفهوم التطرف،  الذي انقلب على العرب و المسلمين أنفسهم ، و الغرب يمارس تطرفه رسميا بيد اليمين المتطرف أينما وجهت وجهك .
حتى انطلت عليهم ، بأن المقاومة الفلسطينة التي تحوطه الحزام الناري الإسرائيلي من كل اتجاه ، هي التطرف ، أما الذي يقتل و يعربد ، فهو يدافع عن نفسه بشهادة " بايدن " و من لف لفه .
لقد تابعت القنوات الفضائية عبر الانترنت و كذلك التحليلات الاعلامية  " لطوفان الأقصى " فلم أجد ملحدا و لا علمانيا و لا مخالفا لحماس و لا مختلفا مع الطرح الإسلامي جملة و تفصيلا و لا قوميا و لا يساريا و لا عدوا لدودا لشعار " الإسلام هو الحل " إلا و يؤيد المقاومة فقط ، لأن المحتل  لا يعرف غير لغة القوة ، هذا الإجماع لم يحدث في التاريخ المعاصر على شرعية المقاومة من أي فصيل خرجت إلا في زمن " طوفان الاقصى " 
و قد أعلنت ملحدة أميركية اسلامها وسط هذا الصخب و عندما سئلت عن الدافع  ، أجابت : بسبب صبر و صمود الشعب الفلسطيني أمام البربرية الإسرائيلية .
أما مساواة  البعض المقاومة ، بتطرف اليمين الإسرائيلي ، فإنه عار على جبين قائله و جريمة يشارك مع نتنياهو في ذات الفعل ، و ضوء أخضر من بعض النخب العربية لأن لديه ثأر في ماضيه وجد في نتنياهو القدرة على الانتقام له ،  فساوى بين القاتل و المقتول في  الجرم و هو ما لم يحدث في أوروبا القرون الوسطى . 
لماذا يسعى البعض إلى خلط أوراق القضية الفلسطينية في وحل " التطرف " ، و الأمر لا يحتمل ذلك ، و إن تجاهل البعض بأنها قضية تحرير أرض ، و استخدام السلاح جزء لا يتجزأ من الخروج عن سيطرة المحتل .
لقد حدث ذلك في جنوب أفريقيا و إيرلندا و اسكوتلندا و غيرها عبر التاريخ الغابر لتحرير الأمم و الشعوب و لا يمكن لفلسطين أن تذهب عكس جريان نهر التاريخ .
لا بد أن ندرك جيدا لعبة اليمين و اليسار في إسرائيل ، و لا نغتر بهما كثيرا ، فالأهداف لدى كلا الحزبين متفق عليها منذ هرتزل حتى زلة نتنياهو الآن .
الإستراتيجية واحدة ، و لكن التكتيك المرحلي مختلف ، و لا يقدم شيئا لصالح القضية الفلسطينية ، فالمشاهد المروعة في غزة نموذج يمكن أن يتكررفي أي مكان  من أجل دولة " إسرائيل الكبرى " و هو ما سماه المولى تعالى في كتابه لمن يؤمنون به " علوا كبيرا " .
عند الوصول إلى مرحلة العلو و الاستكبار ، تقع الواقعة أو المعركة الفاصلة ، و ليس ذلك عنا ببعيد لمن يملك  اليقين في وعد الرحمن .  

القيادة العربية.. إلى  أين ؟!

أين مكان القيادة العربية للواقع الذي يصنع عبر التاريخ المرئي ، إذا كان الإعلام العربي الرسمي لا يناقش ما يحدث في غزة إلا عن المساعدات الإنسانية المرهونة بيد إسرائيل هي الأخرى ، كيف يقال عبر ذات الوسائل بأن هناك دول عربية تقود ما يحدث بحكمة و اقتدار ، من أين لنا التأكد من هذا بعد أكثر من ثلاثة اشهر من المجازر الوحشية ، أخرجت شعوب العالم المتقدم من قوقعته و لم يسمح للشعوب العربية أن تعبر عن موقفه مجرد التعبير فحسب ! 
لا زال البعض يصف بأن ما جرى في 7 أكتوبر 2023 ، مغامرة غير محسوبة النتائج ، و لو كان هذا البعض يعيش في غزة لأمسك لسانه عن القدح و الطعن .
المغامرة لدى المقاومة كانت محسومة النتائج منذ البداية ، و لا نعتقد بأن الذي حفر  أنفاقا من تحت الأرض بمساحة تفوق 500 كيلومتر مربع و هو أقوى سلاح بيد المقاومة الآن ، لم يعمل حساب الثمن الذي لا بد من دفعه من أجل التحرير ، دفع الإتحاد السوفييتي 36 مليون إنسان ثمنا للتحرر من نير " هتلر " ، و صرح بوتين في حربه ضد أوكرانيا بأنه مستعد للتضحية بالملايين من الروس من أجل النصر ، و دفعت الجزائر  ب 3 ملايين شهيد للتخلص من أبشع استعمار فرنسي على وجه الأرض و ضحى العالم في الحربين العالميتين ب 100 مليون إنسان ، و الأمثلة لا متناهية . 
البعض يتعامل مع الماضي كأنه عدم ، في حين أن الزمن لا يمكن تفريغه ، الماضي مرآة الحاضر و بوصلة المستقبل .
بعض الكارهين للماضي ، فقط لأن في ثناياه بعض السلبيات ، يخطئ في تقدير إيجابيات الحاضر و المستقبل ، فالماضي لا يمكن جره إلى الحاضر ، بل الاعتبار به لضمان السير نحو المستقبل بمسار آمن لعدم الوقوع في ظلمات الماضي القريب قبل السحيق .

تدهور .. مسار القضية!

نأتي الآن إلى الأم الشرعية للقضية الفلسطينية ، كانت في البداية " منظمة التحرير " ، و تطورت اليوم إلى " السلطة الفلسطينية " ، مالفرق ؟! 
لا حظوا فقط سقط من برنامجه " التحرير " ، و هو الهدف الأساسي لكل ما جرى من ويلات في العقود الماضية.
من قال  بأن في تاريخ تحرير الشعوب ، لم تنشأ منظمات أو حركات منافسة ، مثلها مثل الأحزاب في الدول المعتبرة في العالم المتقدم ، لتحقيق ذات الهدف خاصة إذا تخلت الشرعية المصطنعة عن تحقيق الغاية الأساسية من إنشائها ؟!
نحن نعيش قرن صعود الديمقراطيات ، فالتكن صناديق الانتخاب هي الحاسمة بدل رؤوس الحراب السامة ! 
لماذا السلطة التي لا زالت في بداية طريقها نحو الدولة المؤجلة إلى حين الرضى الاسرائيلي ، لا تصلح من شأنها و تحسن أداءها و تكسب شعبية أكبر من شعبية المقاومة بكل فصائلها لحكم المستقبل بدل التحكم فيه بلا جدوى . 
يطالب البعض الحكومات التي يتم تشويه صورتها الوردية ، و تخدش خدودها ما ينشر عبر و سائل " السوشيال ميديا " بالاستفادة منها للرد على منتقديها لخذلان البعض في ما يجري بغزة .
نقول كيف للحكومات ذلك ، و هي غير قادرة عبر وسائل إعلامها التي تنفق عليها المليارات ، كي تأتي لقطة من عشر ثواني  لتلغي مصداقية كل ما يبث هناك من جهاز"  آي فون " لا يحتاج لأي موظف إلا موظفا يؤمن بحق الفلسطينيين بالعيش أحرارا ؟!

إحتلال فلسطين .. في النمسا؟!

" ذات يوم كنت أشارك في ندوة في فينا . غادرت مقعدي لإجراء مقابلة صحفية سريعة و عدت لأجد سيدة تجلس مكاني فإذا بها المحامية الإسرائيلية فيليسيا لانجر المتخصصة في الدفاع عن المعتقلين الفلسطينيين .
أدارت رأسها إلى الخلف ، رأتني واقفا ، فقالت : يا إلهي ! نحن متخصصون في احتلال أماكن الفلسطينيين حتى و لو في النمسا ! 
( ص 185- 186 من رواية " رأيت رام الله " مريد البرغوثي ، 2017 )