الأحد 22 ديسمبر 2024

دكتور عبد الله العوضي يكتب: النفط .. " الجيوسياسي "

باور بريس

لا زال النفط ، السلعة المحيرة لعقول واضعي السياسات الاقتصادية في العالم ، و هم الذين ينشرون الأبحاث حول نفاده قريبا ، و من ناحية يطيلون عمره قرنا آخر على أقل تقدير .
مذ وعينا كان النفط أسودا ، و بعد ما أدركنا أكثر صار أخضرا ، و في اميركا صار " أحفوريا صخريا " و في أذربيجان أصبح غارقا على السطح .
أما اليوم تحول النفط سلاحا " جيوسياسيا " يتحكم في مجريات الاقتصاد العالمي  ، و خاصة في المناطق الحدودية التي تحتوي على  آبار مشتركة و لو في دولة واحدة .

تحول استراتيجي !

إن توزيع مناطق استثمار نفط الشرق الاوسط قد تغيرت بين الحرب العالمية الثانية و حرب ( 5 حزيران / يونيو 1967 ) بين العرب .
لقد كانت بريطانيا تسيطر على 72% من احتياطي البترول المكتشف ، مقابل 9.8% فقط للولايات المتحدة الأميركية .
و قد تغيرت الصورة تماما 1967، 
فهبطت حصة بريطانيا من مخزون البترول 29.2% ، بينما ارتفعت حصة الولايات المتحدة إلى 58.6% .
و لقد ارتفعت نسبة الولايات المتحدة إلى رقم كبير غير ثابت عند نهايات القرن العشرين . ( المصدر : " تفكيك هيكل / سيار الجميل - ص : 460 / ط : 2000 )


البترول.. و " مشروع القرن الأفريقي الكبير "

الصراع  " الجيوسياسي " يحوم حول أفريقيا من بعد الاتجاه نحو آسيا ، و تتركز هنا ثلاث دول عظمى ، أميركا ، روسيا و الصين ، و يجعل الصراع محتدما نظرا لدخول أميركا على هذا الخط في الفترة الأخيرة . 
و في ساعة غفلة عن عين الإعلام استضافت أميركا  قادة من جميع أنحاء القارة الإفريقية في واشنطن، يومي 13 و15 ديسمبر 2022 لحضور قمة قادة الولايات المتحدة وإفريقيا"، أن "القمة الأمريكية-الإفريقية ستُظهر التزام الولايات المتحدة الدائم تجاه إفريقيا"، وستؤكد على "أهمية العلاقات بين الولايات المتحدة وإفريقيا وزيادة التعاون بشأن الأولويات العالمية المشتركة" (  الخارجية الأميركية 22/11/2022  ) 
أما استراتيجيا ، فإن بداية هذا المشروع كانت قبل ربع قرن من الآن ، وفقا ل " مشروع القرن الأفريقي الكبير " الأميركي الذي اتضحت ملامحه بداية عام 1998 ، كان المستهدف هو خلق منطقة نفوذ أميركية كبرى هناك ترث النفوذ الأنجلو سكسوني البريطاني ، و تنافس النفوذ الفرنسي ، و الأهم أن تصبح نقطة انطلاق استراتيجية جديدة للوجود الاميركي في ظل مكانة المنطقة الجيوسياسية و الاقتصادية بعد ظهور إحتياطي بترولي وفير و معادن صناعية مهمة. 
و بعبارة أخرى ، يبدو أن هذا المشروع يستهدف خلق موضع قدم أميركية جديدة في أفريقيا و السيطرة على مقر استراتيجي و الاستفادة من ثرواتها الهائلة ، و تحديدا النفط الذي هو محور المطامع الأميركية لرفع نسبة استيرادها من النفط الأفريقي بحلول 2015 إلى 50% من مجموع نفطها المستورد ضمن خطط لتخفيف الطلب على النفط العربي .
و إذا أدركنا أن الاحتياطي الإجمالي النفطي السوداني مرجح أن يصل إلى 3 مليارات برميل ، و أن القسم الأعظم من آبار البترول السودانية هي في الجنوب و الغرب و الشرق لاتضح لماذا ارتبطت بهذه المناطق قلاقل و تدخلات اميركية و لو بطريق غير مباشر مع أعوان أفارقة ، و انتهى الأمر باتفاق سلام تشجع على الانفصال ضمنا أو تغل يد الحكومة المركزية عن هذه المناطق. ( المصدر : القرصنة و القراصنة عبر التاريخ  / مجدي كامل : 2009 - ص : 222 - 225 )

الصين .. ونفط القرن الافريقي

أما الدولة التي تجلس على عرش الاقتصاد الأفريقي ، فهي الصين ، الخصم اللدود لأميركا ، و هنا بيت القصيد في المشروع ككل . 
و تحصل الصين على 25% من اجمالي وارداتها النفطية من القارة الافريقية. و مع  اكتشاف النفط داخل السودان دخلت الصين و بقوة في مجال استخراج و إنتاج النفط السودانى ، ففي عام 1996 حصلت شركة البترول الوطنية الصينيه CNPC على 40% من أسهم شركة بترول النيل الأعظم السودانية GNPOC .
و في العام التالي حصلت نفس الشركة الصينية على مشروع لإنتاج و نقل البترول لمدة عشرين عاما في غرب كردفان في ثلاث مناطق في حوض موجلد ، و وصل إنتاج هذه المناطق الثلاث في يناير عام 2005 إلى 325 ألف برميل يوميا.
و أصبحت الصين أكبر منتج و مستورد للبترول السوداني ؛ حيث تحصل الصين على حوالي 7% من إجمالي وارداتها النفطية من السودان بمفردها . ( ص : 189-190 /  المصدر السابق  )  

القمة .. و المشروع الأميركي الجديد

لننصت إلى " بايدن " في القمة " الأميركية- الإفريقية " :  لدى واشنطن خططًا للشراكة مع إفريقيا في السنوات والعقود المقبلة، وأدعو لدور أكبر لإفريقيا على الساحة الدولية ، و أن تكون على الطاولة في كل المباحثات، ونحن ندعم تمثيلًا دائمًا لها في مجلس الأمن ، سنعمل مع الجهات المقرضة؛ لخفض ثقل الديون على الدول الإفريقية .( 16/12/2022 ) 
و في صحيفة "نيويورك تايمز"، تقرير بعنوان "بايدن يهدف إلى ضخ طاقة جديدة في العلاقات الاميركية مع الدول الإفريقية". جاء فيه: الرئيس الأمريكي يسعى إلى إنعاش علاقة بلاده "الفاترة" مع القارة الإفريقية؛ حيث وعد بمبادرات اقتصادية متنوعة لتعويضها عن تجاهل سلفه " ترامب" لها .
حيث تعهّد باستثمار 55 مليار دولار في القارة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، مع دعم طموحاتها لقيادة عالمية أكبر، وتعزيز الجهود لتحويلها إلى منطقة أكثر ازدهارًا .
و يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها متخلّفة عن الصين في مجال الزراعة بإفريقيا، وهي منافسة جيوسياسية توسّعت في السنوات الأخيرة، لتشمل قوى مثل روسيا وتركيا ودولة الإمارات . ( 16/12/2022 ) 
كشفت مخرجات القمة الأميركية- الإفريقية عن عدد من المبادرات لدعم أفق الشراكة المستقبلية من أهمها التحول الرقمي .
و أما بخصوص تركيز أولويات التوجهات الأميركية على  بناء الاقتصاد و التحول للطاقة النظيفة ، و فتح المجال للجامعات و القطاع الخاص الأميركي لدراسة الفرص الاستثمارية . ( 20/12/2022 / مركز الإمارات للدراسات و البحوث الاستراتيجية )

أسبوع.. النفط الأفريقي

و للتأكيد على أهمية القارة الإفريقية التي لا تقل ثرواتها عن القارة الأميركية ، إن لم تفق عليها ، و الدليل على ذلك عند القارة الأوروبية في الحقبة الاستعمارية التي امتصت خيراتها التي منذ اكتشفها و لا زال الحبل على الجرار . 
بالمقابل هناك دول لا علاقة لها بماضي الاستعمار العالمي ، و هي ترغب في بناء علاقات متوازنة ميزانها المصالح المتبادلة مع أفريقيا أو غيرها من القارات .
و من هذا المنطلق أقيم في الامارات أسبوعا خاصا بالنفط الأفريقي . 
في تصريحات وزير الطاقة و البنية التحتية لـ"وكالة أنباء الإمارات"، حول افتتاح فعاليات "أسبوع النفط الإفريقي 2021"، في دبي : بأن الدول الإفريقية لديها كميات كبيرة من النفط والغاز و الاستثمارات الإفريقية في السابق ليست بقدر ما تملكه من النفط والغاز ما أدى إلى وجود نقص في بعض الدول .
لقد أكدنا على ضرورة أن تكون هناك مشاريع للبنية التحتية للربط بين الدول الإفريقية واستدامة لموارد توليد الطاقة في القارة السمراء ، مستعدون للعمل مع الدول الإفريقية عن طريق شركاتنا العاملة فيها .

إيران على خط .. النفط

إيران المعضلة في معادلة النفط الاستراتيجي لماذا ؟!
دولة حول عنقها حبل العقوبات منذ " الثورة " في 1979 ، عقود مضت و هي في صدارة الاعلام العالمي و يحتار المتابع و المراقب من أمرها عجبا .
بل أكثر من ذلك كله ، شماعة النووي التي لفت على رقبتها من جديد من بعد تمزيق " ترامب " للاتفاقية التي أخذت من عمر الديبلوماسية عشر سنوات مهلكات للصبر السياسي .
أمًا التقارير الراهنة ، فتقدم التفاؤل بين يدي التفاوض .
فهذه وكالة "بلومبيرغ"، تقول : إنه يمكن لطهران أن تزيد مبيعاتها من النفط في غضون أشهر، في حال التوصل إلى اتفاق نووي، ما سيؤدي إلى زيادة التوريد بمئات آلاف البراميل يوميًا عن قريب .
و هو ما ينعش السوق العالمي، بينما يمكن لإيران إضافة 900 ألف برميل يوميًا، بعد 3 أشهر من رفع العقوبات، وأن تبدأ بالإنتاج بكامل طاقتها، أيّ 3.7 مليون برميل يوميًا خلال 6 أشهر .
إيران واصلت الحفاظ على الكثير من حقولها، وعلى علاقاتها مع الزبائن الأساسيين، خلال سنوات توقف علاقاتها التجارية العالمية ، فهي تنتج نحو 2.5 مليون برميل من النفط الخام يوميًا في الوقت الحالي .( 17/8/2022 ) 
من يخفى عليه ، قوة العلاقة الإيرانية - السورية ، و مع ذلك حينما حانت ساعة اختلاط الاقتصاد بالسياسة ، كان صوت الاقتصاد السياسي أعلى كعبا و أرفع صوتا .
هذا ما أشارت اليه صحيفة "وول ستريت جورنال" : بأن مسؤولين إيرانيين أبلغوا سوريا بأنه يتعين عليها الآن دفع المزيد مقابل شحنات النفط الإضافية، مما سيزيد السعر إلى مثلي سعر السوق الذي يصل إلى أكثر من 70 دولارًا للبرميل. ونقلت الصحيفة عن أشخاص مطلعين على الأمر قولهم إن إيران رفضت أيضًا تسليم شحنات جديدة بالدفع المؤجل، وطلبت من سوريا الدفع مقدمًا مقابل إمدادات النفط الجديدة .( 15/1/2023 )

النفط بين تماس .. الحدود

في العالم المترامي الأطراف ، هناك بقع مشتركة و نقاط تماس ما بين حدود الدول البرية و البحرية ، و أعتقد بأن أعقدها منطقة شرق البحر المتوسط ، فهناك مصر ، تركيا ، اليونان ، ليبيا و إسرائيل .
و كذلك تشابك بين أميركا و كندا و روسيا و اليابان ، و بين السعودية و الكويت و بين قطر و البحرين ، و بين إيران و الكويت ، و بين قطر و إيران ، و بين لبنان و إسرائيل.. الخ .
يصعب حصر الدول و لكن العامل " الجيوسياسي " لا يمكن إخفاؤه عن المشهد الكلي ، عند نشوب الخلافات على القسمة و النزاعات عند حصر الثروات الطبيعية الكامنة هنا و هناك . 
نضرب بذلك مثلا مما جاء على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية، خلال أحد المؤتمرات الصحفية قوله حول ترسيم الحدود مع الكويت، والاتفاق الكويتي-السعودي بشأن حقل "آرش": وزارة النفط بصفتها جهة الاختصاص، أعلنت أن هذا الحقل النفطي مشترك ، 
و أنه لا ينبغي التشغيل قبل ترسيم الحدود ، و قد أبلغنا الكويت بأن الحقوق الإيرانية محفوظة، وينبغي التشغيل بشكل مشترك، وأعلنت الكويت أيضًا أن لديها هذا الاستعداد ( 22/4/2022 ) 
و مثال آخر من شرق البحر المتوسط ، حول ما يتعلق بقرار مصر ترسيم حدودها البحرية الغربية في "المتوسط"
أبرز ما جاء في تقرير نشره مركز الدراسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التركي "سيتا"، تحت عنوان "القرار المصري الخاص بترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط ومعناه": المرسوم المصري بشأن الحدود مع ليبيا أحادي الجانب لا يشكل حدودًا معترف بها في سياق القانون الدولي .
و من الصعب القول إن المرسوم المصري استهدف تركيا؛ إذ إن المقصود الحقيقي بهذا الإجراء هو "حكومة طرابلس"
و أما الهدف الرئيسي لمصر من مرسوم تحديد الحدود الغربية هو محاولة توسعة الجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة وربما زيادة إمكاناتها من الطاقة . 
و في هذا الصدد ، مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية ، تنشر مقالًا لـ"بن فيشمان"، كبير الباحثين بـ"معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، بعنوان "بإمكان ليبيا إنجاح أو إفشال دبلوماسية بايدن النفطية في الشرق الأوسط". جاء فيه : 
مستشارو بايدن يواصلون التقليل من أهمية الأولوية المباشرة لرحلته للمنطقة؛ وهي إقناع الرياض بزيادة إنتاج النفط ، و زيادة الإنتاج السعودي للنفط لن تعني الكثير إذا ظل إنتاج النفط الليبي "غير موثوق به"
تحقيق الاستقرار في ليبيا يمكن أن يؤدي إلى عودة ما بين 500 ألف ومليون برميل في اليوم إلى السوق بسرعة، كما سيوجه ضربة استراتيجية لروسيا، التي نشرت مرتزقة "فاغنر" فيها .( 12/7/2022 )

النفط.. " الصخري " أو " الاحفوري " !

النفط الصخري هو زيت غير تقليدي ينتج من شظايا الصخر الزيتي بواسطة الانحلال الحراري أو  الهدرجة أو التذويب الحراري. تعمل هذه العمليات على تحويل المادة العضوية داخل الصخر ( الكيروجين ) إلى نفط وغاز اصطناعي. يمكن استخدام الزيت الناتج على الفور كوقود . ( ويكيبيديا)
هذا النوع من النفط تستخدمها أميركا سلاحا سياسيا في وجه " أوبك " إذا لم ترضخ لشروطها عند الأزمات. 
صحيفة "فايننشال تايمز"، تُفيد بأن "ثورة النفط الصخري" في الولايات المتحدة تقترب من نهايتها، وقد يتسبب ذلك بزيادة عدم الاستقرار في سوق النفط العالمية، و انتهاء "ثورة النفط الصخري" الأميركية يُعد مركز قوة لدول "أوبك+"، ويُعيد إليها الثقل الجيوسياسي في العالم .( 18/1/2023 )
و في مقابلة مع وكالة " رويترز " لوزيرة التغير المناخي والبيئة بالإمارات ذكرت : بأنه يتعين على الدول المشاركة في "كوب28"، الاتفاق على التخلص من انبعاثات الوقود تدريجيًّا لا وقف إنتاج النفط والغاز والفحم ، لأن 
وقف إنتاج الوقود الأحفوري تدريجيًّا سيضر بالدول التي تعتمد إيراداتها عليه أو لا يمكنها بسهولة استخدام المصادر المتجددة بدلًا منه .
و استراتيجية استخدام تقنيات الاحتجاز والتخزين مع تعزيز استخدام الطاقة المتجددة تتيح للبلدان مكافحة الاحتباس الحراري مع الاستمرار في إنتاج النفط والغاز والفحم .( 10/5/2023 ) 
هذا و قد قامت صحيفة "فايننشال تايمز" بنشر مقال  لـ"جدعون راتشمان"،  تناول  فيه أزمة الطاقة العالمية، ومدى ما يمكن أن تحققه الولايات المتحدة من مكاسب بسبب تلك الأزمة .
أغلب المؤشرات المتوافرة في المشهد الحالي ترجح أن روسيا تتمتع بموقف قوي على المدى القصير؛ فيما يتعلق بإمدادات منتجات الطاقة، لكنها قد تواجه الكثير من المتاعب وتتحول إلى موقف سيء خلال السنوات الثلاث المقبلة .
أما الولايات المتحدة فقد  تجاوزت روسيا ، لتكون أكبر مصدر لمنتجات الطاقة عالميًا ، و تعتبر الارتفاعات الأخيرة في أسعار الطاقة عمودًا فقريًا لقطاع استخراج النفط الصخري الأمريكي .
لأن أزمة الطاقة العالمية، أدت إلى زيادة الطلب على الوقود الأحفوري؛ بما في ذلك الفحم غير الروسي، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام منتجي النفط الصخري الأميركي للاستحواذ على نصيب أكبر من السوق العالمية على حساب روسيا ( 29/6/2022 ) .

و هكذا سيظل النفط متأثرا بالعامل الجيوسياسي ، كلما لاح برقه من باطن الأرض ، فهو لا زال مصدرا ينبض بالحياة لدى كافة الدول التي استمتعت بهذه الثروة الاقتصادية ، أو في الدول البكر و التي تنام و تصحوا على أحواض ضخمة يمكن أن تكون مخرجا لأزماتها المالية و الاقتصادية في المدى المنظور .