الأحد 22 ديسمبر 2024

الدكتور عادل اليماني يكتب : دعوةُ عشاءٍ لشخصين

باور بريس

الأُمُّ مَـدْرَسَــةٌ إِذَا أَعْـدَدْتَـهَـا ..
أَعْـدَدْتَ شَعْبـاً طَيِّـبَ الأَعْـرَاقِ
الأُمُّ رَوْضٌ إِنْ تَـعَهَّـدَهُ الحَـيَــا..
بِـالـرِّيِّ أَوْرَقَ أَيَّـمَـا إِيْــرَاقِ ..
قال أحدُهم ، ذهبتُ لتقديمِ أحدِ المؤتمرات ، وقبلَ الصعودِ إلي  المسرحِ مباشرةً ، انسكبَ الشايُ الساخنُ علي ملابسي ، فقالوا جميعاً : وماذا فعلتَ ؟ وقالت الأمُ  : هل أصابَك سوءٌ !!! 
قالَ المُعلمُ الأولُ
(صلي اللهُ عليه وسلم ) عن الأم : فَالْزَمْهَا فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا .. 
وذكرَ ( ص ) أنها أحقُ الناسِ بحُسن الصُحبة ، متفوقةً ثلاثَ مراتٍ عن الأب نفسِه .. 
أمي هي أعظمُ كتابٍ قرأتُه.
يُطلِقُ عليكِ الجميعُ ( امرأة ) وأنا وَحدي أُطلِقُ عليكِ ( كل شئ ) ..
فارغةٌ  هذه الحياةُ ،  حينَ تمرُ دونَ أمي .
كلُ شئٍ في هذا الوجودِ يُمكنُ تعويضُه ، إلا الأم ، فإذا فارقت ، نادتِ السماءُ : ماتتِ التي كُنا نُكرمُك من أجلِها ، فأعملْ صالحاً ، نُكرمُك من أجلِه .
هي التي تعجزُ أمامَها الكلماتُ ، وتتوقفُ عندَها القدراتُ ، علي حصرِ فضائلِها ، ومهما أوتي الإنسانُ  من فصاحةٍ في اللسان ، أو رجاحةٍ في العقل ، ما استطاعَ أن يوفيَها قدرَها . القادرُ علي ذلك ، وحدَه ، دونَ غيره ، هو الله ، جلتْ قدرتُه ، الذي قالَ : أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( يجمعُ اللهُ الشُكرين معاً ) .

و يُروى أنّ اللّهَ تعالى قالَ لموسى عليه السّلام : يا موسى إنّه من برّ والديه وعقّني ، كتبتُه بارّاً ، و من برّني وعقّ والديه ، كتبتُه عاقّاً .
ويُحكي أن رجلاً كانَ بالطوافِ ، حاملاً أمَه , فسألَ  : هل أديتُ حقَها ؟ فأُجيبَ :  لا , ولا بزفرةٍ واحدة ! أي من زفراتِ الطلقِ والوضع ..
ولقد رأينا أماً مؤمنةً كالخنساء , في معركةِ القادسية ، تُحرضُ بنيها الأربعةَ , وتوصيهم بالإقدامِ والثباتِ ، في كلماتٍ بليغةٍ رائعة , وما أن انتهت المعركةُ ،  حتى نُعوا إليها جميعاً  , فما سَخِطت ، ولا صاحت , بل قالتْ في رضاً ويقين : الحمدُ لله الذي شرفني بقتلِهم في سبيله !!
وتحدثَ التاريخُ كثيراً ، عن أمثلةٍ رائعة لأمهاتٍ عظيماتٍ ، فأم موسى تستجيبُ إلى وحي الله  وإلهامِه , وتُلقى ولدَها ، فلذةَ كبدِها في اليم , مطمئنةً إلى وعدِ ربِها ، وأمُ مريمَ ، التي نذرتْ ما في بطنِها محرراً لله , خالصاً من كل شركٍ أو عبوديةٍ لغيرِه , داعيةً اللهَ أن يتقبلَ منها نذرَها ، وتقبلَ منها ، وخرج ولدُها ، نبيُ البرِ والرحمةِ بالأم ، ليقولَ لنا { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي } .
كما حكي التاريخُ أيضاً ، عن عظيمِ تربيةِ الأمهات ،فالبخاري ربته أمُه ، 
أحمد بن حنبل ربته أمُه ، الشافعي ربته أمُه ، وابن تيمية كانت أمُّه تُسمَّى تيمية ، وكانت واعظةً، فنُسِب إليها، وعُرِف بها . 
الأمُ والعطاءُ ، وجهان لعملةٍ واحد ، عطاء بلا حدود ، عطاء بلا مِنة .
{ دعوة عشاء لشخصين } هذا عُنوان القصة..
امرأةٌ جلستْ مع زوجِها ،  ذاتَ يومٍ وقالتْ له : ألا تحبُ أن تخرجَ للعشاء ،  مع امرأةٍ غيري؟!
فقالَ لها: كيف؟!
قالت: منذُ وقتٍ  طويلٍ ، مارأيتُك  خرجتَ معها !
فقالَ : ومن هي؟
فقالتْ : أمُك ، التي لم تخرج معها منذ 21 عاماً!!
وهنا تذكرَ الرجلُ أمَه ، وهاتفَها ، ( وعزمها ) على العشاءِ في اليومِ التالي .
فقالت له : يا ولدي ، هل أصابَك مكروهٌ ؟!
الابن : لا..
الأم : هل أصابَ أولادَك مكروهٌ ؟!
الابن : لا..
الأم : هل أصاب زوجتَك مكروهٌ ؟!
الابن : لا..
وظلتِ الأم تُكررُ عليه : أنا سأخرجُ معكَ للعشاءِ ! غيرَ مُصدقة !
وجاءَ  الابنُ ،  ووجد أمَه تنتظرُه ، عندَ بابِ البيت ، لشدةِ فرحِها بقدومِ ولدِها ، وكانت الأمُ في كاملِ زينتها، وقالتْ لولدِها : يا ولدي ما تركتُ أحداً من جيراني ، إلا وأخبرتُهم ( بالعزومة ) من شدةِ فرحي بها.
وفوجئ الابنُ أن أمَه ترتدي ثوباً اشتراه الابنُ لها ، منذُ خمسِ سنواتٍ ، وكان آخرَ شٍئ اشتراه لها ، فدخلا المطعمَ ، وأخذتِ الأمُ  لائحةَ الطعامِ ، ولم تنظرْ إليها ، كانت تُطالعُ ولدَها ، فنظرَ الابنُ للأم ، ففهِمَ من نظرةِ أمِه ، أن نظرَها أصبحَ ضعيفاً.
فقالَ لأمِه : أقرأُ لكِ لائحةَ الطعامِ ؟
الأم تنظرُ إليه ، وهي مبتسمةٌ : نعم يا ولدي .
وقالْ  : وأنتَ صغيرٌ ، يا بُني ، كنتُ أختارُ لك الطعامَ ، واليومَ أنت تردُ ليَّ الدَين !! واختارتْ أبسطَ الأنواعِ ، وأرخصَها !!
وفعلاً كانا سعيدين ، وأحسَ الابنُ أنه كانَ غافلاً عن أمِه طوالَ تلك السنواتِ ، فقال لها : ما رأيُك يا أمي في يومٍ ثانٍ ؟
الأم: لا مانعَ لدي ، شريطةَ أن تكونَ  ( العزومة ) القادمةُ على حسابي أنا !!
وراحت الأمُ ، وهي تنتظرُ اللقاءَ الثاني ؛ شوقاً لولدها ، لكنها مَرِضَتْ قبلَ هذا اللقاء ، شهوراً طويلة ، والابنُ ينتظرُ ، حتى تشفىَ أمُه ؛  ليأخذَها كما وعدَها، ولكنَّ الموتَ غيبَ الأمَ ، قبلَ اللقاءِ الثاني !!
وكانت المفاجأةُ بعدَها ، أن المطعمَ نفسَه ، يتصلُ به ، ويخبرُه ، أنه (معزوم ) وزوجتُه على العشاءِ ،  والفاتورةُ مدفوعة ! فذهبا ووجدا أن ( الأم ) تركتْ رسالةً مع دفعِ الفاتورة تقولُ  فيها : كنتُ أعلمُ أنني لن أتمكنَ ، مرةً أُخري  ، فقررتُ أن تكونَ ( العزومة ) لكَ ولزوجتِك !!
الأم هي وصيةُ اللهِ تعالي للإنسانِ في كلِ زمانٍ ومكان : 
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا ..
وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ..
بروا أمهاتِكم تسعدوا ، 
بروا أمهاتِكم ، قبلَ أن يقتلَكم الندم ..
رحِمَ اللهُ رُوحاً طيبةً فارقت .. 
وحفِظَ اللهُ كلَ أُمٍ ، من كلِ سوء ..