دكتور عبدالله العوضي يكتب: الخليج .. لم يخطف مِصْر
مصادفة التقطت مسامعي من دون أن أكون سمَّاعا للحديث الذي كاد أن يوقفني عن المضي في طريقي .
قامة من قامات الناصرية وقد بلغ اليوم من الكبر عتيا، وفي لقاء راهن مع "بي بي سي "العربية كان يناقش أوضاع العرب وما آلت إليه حالة الأمة فيما بعد " الربيع " الخالي من " براغه" .
وما أوقفني حقا عن متابعة سيري هو قوله ، بأن دول الخليج اختطفت مصر و معها الجامعة العربية .
لا علم لي بهذا الزعم في غير وقته ولا محله ولم أسمعه بهذا الأسلوب من غيره على الرغم من السيل الجارف من الإنتقادات غير البناءة لما تقوم بها دول الخليج من أداوار تاريخية في هذه اللحظات المفصلية من حياة الأمة .
يعيش البعض في جلباب الماضي و يسقطه على الحاضر ويستنتج من خلالهما توقعات المستقبل دون أن يعير أدنى اهتمام بالتقلبات الحادة التي لحقت بالعالم كله وليس العرب فحسب .
لا بد من وضع هذه المتغيرات في مرحلتها دون القفز على العوامل التي أثرت بشكل مباشر أو غير مباشر في حدوثها .
سأبدأ من مصر بشموليتها ، الفرعونية ، القبطية ، العربية ، الإسلامية ، الفاطمية ، الأيوبية ، والأزهرية ، الفاروقية ، الباشوية ،الزغلولية ، العرابية ، القومية ، الناصرية والوطنية ،الأخيرة عندي أهم لأنها تحتوي الكل تحت مظلة الوطن بكل فسيفساءه .
مصر على المستوى الشخصي ، المعلم الأول الذي غرس في قلبي حب اللغة العربية قلب العروبة وقالبها .
مصر المدرس الأول من علمني التعليل والتحليل في مادة الجغرافيا ، وكنا لا نحب هذا السؤال لأنه كان يأخذ من عصارة تفكيرنا الشيء الكثير .
مصر الأستاذ الأول في ترسيخ مبادئ علم الإجتماع في عقلي بالمدرسة والجامعة ، و هي الدكتورة الأولى التي غرست لي أرضية الإعلام البناء لقواعد المجتمع المسالم .
مصر الدكتور الذي غذَّا بصيرتي بمبادئ الإسلام المعتدل والمليئ بسبل التسامح ، ومصر كذلك شيخ الأزهر الذي شجعني لإصدار أول كتاب لي .
و لو أردت حصر فضائل مصر علينا نحن أهل الخليج لعجز الحصر عن العد ، لقد خطفتنا مصر بعلمها وفكرها وأريحية شعبها وليس كما زعم صاحب الفكر الأحادي .
عجينتنا الأولية تشكلت من وحي مصر . لقد ملأت أول إستمارة بعثة دراسية إلى مصر قبلة كل من شرب ماء النيل .
هناك فرق ساسع بين مصر الدَّور ومصر المصير ، فالدور قد يتقدم أو يتأخر وهذا لا يعني بأن الخليج كان يتربص لأخذ دور مصر و هي مركز القلب للأمة العربية ، فليست هناك دولة عربية أخري باستطاعتها لعب هذا الدور حتى في أحلك الظروف والمتغيرات التي قد لا تملك مصر ولا غيرها سبل التحكم في مجرياتها .
و عندما يقوم بعض دول الخليج بأدوار معينة و مرحلية تتطلبها استحقاقات ما تمر بها المنطقة من ظروف استثنائية فهذا الدور لا يقلل شعرة من مكانة مصر المصير .
بعد أن وضعت دول الخليج كل امكاناتها للوقوف مع مصر في خندق واحد لانتشالها من وهدة " الربيع " الذي كاد أن يذهب ببهاء مصر ومقدراتها أدراج الرياح .
لا أعتقد بأن مصر بهذا الفعل الإيجابي من قبل الخليج قد فقدت دورها أو خطفت من قبل أشقائها في الخليج وهي في الحقيقة كبراها .
إن دول الخليج مصرة على عودة مصر إلى مكانها الصحيح ومكانتها الطبيعية في دورها القيادي والدفع بها نحو القمة .
أما فيما يتعلق بالجامعة العربية فهي واقعا لا دور مؤثر لها فيما يدور من حولها من أزمات طاحنة لا حصر لها ، وليس لدول الخليج يدا فيها، بل هي حريصة على بقاء هذا الصرح العربي حتى في حالتها الراهنة .
ولا ينبغي الخلط بين مصر الدولة والوطن وبين دور الجامعة ، فالفصل بين الوضعين من الضرورة حتى لا تظلم إحداها الأخرى .
رغم وجود دعوات مبطنة من بعض أعضاء الجامعة في البحث عن بديل آخر أكثر فاعلية و ديناميكية ، إلا أن دول الخليج أيضا مصرة على عدم المساس بأصل الجامعة مع مطالبة البعض بضرورة إجراء إصلاحات جوهرية في هيكلها الإداري والتنظيمي من أجل إمدادها بعناصر القوة والإستدامة .
وهذا لا علاقة له بعملية الإختطاف التي يتحدث عنها البعض المؤدلج قوميا في زمن تعولمت الدول من حولنا والدول " القرى " صارت تلعب أدوارا أكثر فاعلية من أخرى تكاد أن تتكلس و تتجمد في مكانها .
طبعا ، الخليج بشكل عام لا تريد لأي دولة عربية أن تصاب بهذا الداء لأن متغيرات السياسة المتسارعة لا تنتظر أحدا لا يريد ركوب قطار التغيير المدروس .
الخليج لو كان نهرا دافقا و بحرا هادرا ، لا بد أن يجري كل ذلك في محيط مصر ، فكيف للبحر بلع المحيط فضلا عن اختطافه .