دكتور عبدالله العوضي يكتب: قلعة محمد على .. أحاسيس و نظرات
مصر قطعت شوطا كبيرا خلال اكثر من قرنين للانعتاق عن سيادة و سلطة الدولة العثمانية التي بدأ المرض الداخلي ينخر جسدها قبل الضغوط الخارجية .
و الذي أدار هذه العملية السياسية هو الباشا العثماني محمد علي الذي وُلي على مصر ، و قد استطاع أن يمارس أدوارا مستقلة ، بعيدة عن أعين الدولة العلية في اسطنبول مع إظهار ولائه الظاهري للسلطان آنذاك .
لقد مرت هذه السيرة على خاطري و أنا أقف على قمة جبل في القاهرة ، حيث بنى الباشا قلعته الصامدة و جامعه المهيب الذي يضم ضريحه و أبنائه معه .
دخلت إلى هذا الجامع مصليا و ومسلما على الباشا و أولاده المدفونين معه في ذات الجامع و مترحما عليهم .
و أثناء الخروج من هذا الجامع العريق ، علق أحدهم قائلا : تعرف الباشا اللي ترحمت عليه عمل إيه بجانب المكان ده ، قلت : ما أعرفش .
قال : عمل مجزرة للمماليك الذين دبروا انقلابا عليه ، فدعاهم إلى وليمة فاخرة ثم تغدى بهم قبل أن يتعشوا به ، و لم ينج منهم إلا رجلا واحدا قفز من حصانه من قمة الجبل إلى القاع في معجزة تتناقلها الأجيال .
لقب محمد على باشا بمؤسس مصر الحديثة ، و هو الوالي العثماني الوحيد في تاريخ الدولة العثمانية الذي استطاع أن يستمر في الحكم من العام 1805 إلى 1848 , في الوقت الذي كان الوالي طوال عهد الدولة العثمانية لا يستمر في ولايته لسنتين ، بل استمر حكم عائلته طوال قرابة قرن و نصف القرن .
ماذا أنجز الباشا لمصر الحديثة
بنى محمد علي قاعدة صناعية ، لتوفير احتياجات الجيش ، و أنشأ مصانع للغزل و النسيج و مصانع للحبال اللازمة للسفن الحربية و التجارية ، و مصنعا للأقمشة الحريرية ، و معملا لسبك الحديد ، و مصنع ألواح النحاس ، و معامل لإنتاج السكر .. الخ
و أثناء خروجنا من القلعة ، اقترب مني شاب يبيع للسياح تذكارات من وحي المكان ، فعرض علي مجموعة من العملات القديمة بملغ ستمائة جنيه ، فلم أشتريها لعدم حاجتي إليها ، فأصر علي قائلا : عشان خاطر أمي اللي عيد ميلادها النهار ده .
فطال بيننا الجدال ، رآني المرشد الذي معنا ، فأتى ليعرف السر في ذلك فشرحت له الوضع ، فقال للشاب : اسمعن يا واد ده عربي مش أجنبي ماتسيبه .
فقبلت أن آخذ منه المعروض علشان خاطر أمه بنصف السعر ، فقبل .
و في السيارة التي تقلنا قال المرشد : ده تلقى أمه ماتت من 150 سنة ، فضحك الجميع من طرافة الموقف و ظرافته .
فالتفت إلى أحد الزملاء فناولته العملات فقلت هذا من نصيبك .
و في قرارة نفسي ذكرت : للشاب الحق في اعتباري أجنبي لأن في ملامحي شيء من سيما ذلك .
و الرقم 150 الذي خرج عفويا هو مدة العهد الذي حكم فيه الأسرة العلوية مصر الحديثة .
و أثناء طريقنا إلى القلعة رأينا سورا عظيما يلاحقنا ، فلمح المرشد ذلك قائلا : هذا السور بناه محمد علي علشان يوصل المية إلى القلعة .
تصور أنه ممتد على ضفاف النيل من وسط القاهرة حتى أعلى قمة جبل في خارجها لا شك أنها فكرة عبقرية ، و ذلك في تدرج ارتفاعها حتى يمكن ضخ الماء لهذه المسافة طولا بل و صعودا .
فلم تكن آنذاك آلات متوفرة لضخ المياه إلى ذلك الارتفاع ، و لكن لم تعجز العقول الهندسية من ابتكار طريقة بديلة لتلبية متطلبات الحياة اليومية على تلك المرتفعات الشاهقة .
فالعقول التي أبدعت في بناء الأهرامات لم تعجز يوما في إمداد قصر الحاكم آنذاك بماء الحياة .
حتى تستمر مصر في صعودها الحضاري على مر العصور و العهود .
قبل أن نختم ، نقول كان محمد علي من دهات السياسة في مصر ، و من ذلك ما أشار عليه أحد مستشاريه لقراءة كتاب " الأمير " لمؤلفه ميكافيلي للتعلم من حيله السياسية في إدارة الحكم ، فرد عليه الباشا : إنني اتقن من الحيل ما لم يخطر على بال ميكافيلي .