السبت 23 نوفمبر 2024

دكتور عبدالله العوضي يكتب: في قاهرة العزة لأول مرة

الدكتور عبدالله العوضي
الدكتور عبدالله العوضي

تسمع عن الدول و المدن و القرى، وكذلك قد تقرأ عنها، أو تراها من خلال الأفلام الوثائقية، إلا أن كل ذلك لا يغني عن زيارتها، فإن فيها مذاق مختلف ووعي حقيقي لا يقارن بالوسائل السابقة لمعرفة الشعوب عن قرب.

فالزيارة هي وحدها الكتاب المفتوح لأي دولة، مهما كتب عنها في مجلدات، فليس من ذاق كمن عرف. 

أول زيارة غير مكتملة الأركان كانت لي إلى مصر في العام 1993، أثناء سفري إلى المملكة المتحدة، حيث كانت القاهرة إحدى محطات التوقف قبل استكمال الرحلة إلى بريطانيا العظمى. 

وقد ظننت أننا سندخل الترانزيت إلى المطار لقضاء بعض الوقت قبل الإقلاع إلى الوجهة الرئيسة، ولكن لم نحصل على متعة البقاء في المطار ولو لوقت قصير نتعرف على الناس من خلاله. 

وفي الطائرة كانت المضيفة تصبرنا على احتمال التأخير بسبب زحمة المسارات الجوية و كثرة عمليات الهبوط و الإقلاع.

وفي كل تأخيرة كنا نلح على طاقم الطائرة بالسماح لنا البقاء في المطار ، حتى تأخذ الأجواء وضعها الطبيعي ، و لكن الإلحاح لم تجد نفعا  .

و ما لم يتحقق في 1993، أصبح واقعا جميلا في عام 2006 , أي بعد ثلاثة عشر عاما من محطة التوقف ، الذي تحركت بعدها إلى آفاق مصر الرحبة.
و قد لامست مذاق القاهرة من ساعة الوصول ، و خاصة ، أثناء استقلالي سيارة الأجرة ، فكان السائق هو البوابة الرئيسة لدخول مصر إلى القلب . 
أقول ذلك ، و قد كانت الأوضاع الأمنية في أشد حالات الحرج ، بعد وقوع حوادث إرهابية في تلك الفترة العصيبة . 
صعدت إلى المركبة " التاكسي " ، و بمجرد جلوسي لثوان ، بادرني السائق بالقول : أكيد إنت من الخليج ، لم يقل أظن ، بل قال بكل ثقة : أكيد .
قلت نعم من الإمارات ، قال : أسمعك مين تومة " أم كلثوم " و اللا محمد عبده و اللا الشيخ عبدالباسط ، مدخل جميل فلا بد أن تختار و تنجح في الاختبار ، أم كلثوم طبعا ، و كانت هي في المرتبة الأولى مقارنة بكل الفنانات العربيات حتى تلك الساعة ، أي بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على مغادرتها الدنيا و هي لم تغادرنا لحظة.
هذا المصري الإنسان الذي كان مصدر أُنسنا الأول أَنسانا كل الإجراءات الأمنية التي صادفتنا خلال جولاتنا و تحركاتنا في مختلف مناطق القاهرة .
و لا أنسى أني في فترة المراهقة، قد سجلت لأم كلثوم من خلال جهازي الشخصي قرابة 120 شريط كاسيت من إجمالي 320 أغنية ، و في المرحلة الجامعية كانت سميرنا حتى تغمض جفوننا . 
و لو بقيت مع السائق صامتا لفترة طويلة ، فهو لا يطيق الصبر على صمتك ، فينقلب روحا تتخلل كيانك ، فلا بد أن يملأ قلبك فرحا و سعادة من كثرة النكات السريعة التي يصبها عليك صبا ، فلا تشعر بالوقت إلا و الفندق يصطدم بوجهك . 
كم يحتاج الإنسان ، بالذات في وقت الأزمات ، إلى من يملك روح الدعابة و المرح ، يسلي عن خاطرك و يقوي من مناعتك النفسية لتحمل المزيد من الصعاب و لكن بروح رياضية عالية و صافية من كل الشوائب المكدرة . 
بعد الانتهاء من المهام الرسمية و الالتزامات الجانبية ، كنت " أسرق " الوقت للخروج إلى مناطق النفحات التاريخية لشم عبقها ، و كانت للأهرامات النصيب الأكبر . 
كنت مع زميل لي حين وصلنا حيث بداية التجوال ، استقبلنا رجل مع ناقته ذات السنامين ، فأناخها لنا استعدادا للركوب ، فاعترضنا على ركوب ظهرها خوفا عليها من ثقلنا ، فلم يستجب العامل لقولنا فبعد ركوبنا بثوان ناخت من جديد على الأرض و مع ذلك أصر صاحبها على المحاولة من جديد فارتفعت الناقة و كأنها قبلت التحدي لحمل الثِقلين ، قتحركنا بين الكهوف و الممرات الضيقة كيف ؟! لا نعرف السر .
لكنا سلمنا القيادة لصاحب الناقة فحسب ، و قد مررنا بالمومياوات و تواريخها الغابرة و الضاربة أعماق سبعة آلاف من الزمن ، عبرناها في لحظات . 
حل المساء علينا ، فانتقلنا من الأهرامات إلى النهر الخالد حيث أطربنا به الموسيقار محمد عبدالوهاب في القصيدة الخالدة و مطلعه : 
مسافرٌ زاده الخيالُ
والسحر والعطر والظلالُ
ظمآن والكأس في يديه
والحب والفن والجمالُ 
فهرعنا إلى حجز مقاعدنا في أشهر مركب سياحي يسمى  ب " الفرعونية " التي جابت بنا ليلة للعمر لا تنسى قل لها نظير . 
هذا و قد صادف وجودنا بفندق " كونراد " ليلة رأس السنة الميلادية ، حيث أنوار البهجة و السرور تحيط بالمحتفلين ، و كان نجم المطرب الشعبي سعد الصغير صاعدا في وصلات تزيل عن كاهلك أثقال عام مضى و استقبال فأل طيب لسنة تحفها آمال عراض و أماني سارة تعيد إلى البلاد أمنها و أمانها و ترفع عنها كل المنغصات . 
أما بقية الناس ، فكانوا بانتظار بزوغ نجم عمرو دياب بعد منتصف الليل و أثناء ثواني إطلالة عام جديد ، لكي يعيد إلى قلوبهم قيمة العيش في أمان و استقرار ، في مصر التي كان رمزها التاريخي يعزف على وتر " ادخلوها بسلام آمنين " ليس حصرا على الشعب ، بل كل من يبحث عن بيت العرب .