الأربعاء 16 أكتوبر 2024

دكتور عبدالله العوضي يكتب : الغاز الروسي .. وقواعد اللعبة الدولية

باور بريس

النفط و الغاز توأم الاقتصاد الروسي و عصبه الحساس ، و قد غديا أكثر أهمية بعد الحرب في أوكرانيا ، حيث تبعثر التوأم شذر مذر .
ليس هناك إلى الآن مصدر  آخر للطاقة أهم من النفط و الغاز ، و في كل الأزمات التي مرت على العالم المعاصر دليل على هذا الواقع المشاهد كلما تحركت أسعار النفط صعودا و هبوطا أو توقفت الناقلات في عرض البحار و المحيطات بانتظار الفرج الجيوسياسي . 
نظرة الروس إلى مفهوم " الجيوسياسي " مختلف عن الغرب فما تعده صراعا روسيا تعتبره فرصا مواتية رغم التحديات و العراقيل .
و ندرك ذلك من مقال كتبه 
لافروف وزير الخارجية الروسي في 5/5/2022 بصحيفة "روسيسكايا غازيتا"، بمناسبة الذكرى الـ30 لإقامة علاقات مع "دول آسيا الوسطى". جاء فيه : 
موسكو ترى إمكانيات كبيرة لمواصلة التعاون في مجالات التجارة والاقتصاد والطاقة والبحث العلمي والتقنية والنقل مع دول آسيا الوسطى ، و على العكس من بعض الدول الغربية، لا تنظر روسيا إلى منطقة آسيا الوسطى على أنها ساحة للصراع "الجيوسياسي" .
فيما ذكرت مجلة "فورين بوليسي" حديثا في 7/8/2022  إنّ : الإدارة الأمريكية تعتزم الإعلان عن استراتيجية جديدة بشأن القارة الإفريقية؛ تهدف إلى إحياء التعاون مع جميع دول القارة في إطار التنافس الجيوسياسي مع الصين وروسيا على النفوذ. مشيرةً إلى أنّ الاستراتيجية تقوم على تفعيل الأدوات الدبلوماسية وتعزيز آفاق التعاون في تحقيق التنمية، بعيدًا عن التدخل العسكري كخيار أول في مكافحة التطرف والإرهاب .
قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بأشهر قليلة ، و في 21/12/2021 , نشرت صحيفة " ذا هيل" مقالًا تطرقت فيه إلى الأسباب التي تدعو روسيا إلى استنفار جيشها على الحدود مع أوكرانيا ، منها : أن الأحداث الجارية تلعب لصالح بوتين، فأسعار الطاقة في أعلى مستوياتها الآن، كما أن بناء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" الذي يربط روسيا بألمانيا قد اكتمل، ما يتيح لموسكو التحكم في إمدادات الطاقة إلى أوروبا .
و في نفس الفترة عقدت قمة في 6/12/2021 بين مودي و بوتين ، حيث نشرت صحيفة "إكونوميك تايمز"، قبلها بأيام في 2/12/2021 تقريرًا بعنوان "تركيز كبير في الشرق الأقصى الروسي في قمة مودي وبوتين"، وأبرز ما جاء فيه:
ستركز القمة على التعاون والمشاريع المشتركة في الشرق الأقصى الروسي ، و الهند لديها خطط طموحة للشرق الأقصى الروسي الغني بالموارد .
أما بيت القصيد يقع في أن الطاقة تعد إحدى الركائز الأساسية لسياسة العمل في الشرق الأقصى لنيودلهي، حيث تخطط الحكومة لزيادة الاستثمارات بحقول النفط الروسية في المنطقة .
لأن روسيا تمتلك أكبر احتياطيات معروفة من الغاز الطبيعي في العالم ومعظم هذه الاحتياطيات موجودة في الشرق الأقصى الروسي . 
و في منتصف شهر يوليو 2022 ، نشر موقع "أويل برايس"، تقريرًا بعنوان "انقلاب بوتين في الهند سيصدم الولايات المتحدة"، وأبرز ما جاء فيه : أن الصفقات التي أبرمتها روسيا مع الهند تهدد جوهر استراتيجية الولايات المتحدة في مواجهة توسع روسيا والصين في الشرق الأوسط وما وراءه .
موسكو ونيودلهي أبرمتا حزمة من الاتفاقيات الدفاعية والاقتصادية، ومن ضمنها صفقة تقوم بموجبها شركة "روس نفط" الروسية بتوريد نحو 15 مليون برميل من النفط الخام إلى الهند في العام 2022 ، بحيث تشكل الهند الحصة الأكبر من نمو الطلب على الطاقة على مدى العقدين المقبلين، حيث يتوقع أن تتجاوز الاتحاد الأوروبي كثالث أكبر مستهلك للطاقة في العالم بحلول عام 2030 . 
ليست الهند فقط في هذا المركب الروسي المدفوع بطاقة النفط و الغاز ، بل تركيا أيضا تسبح باتجاه هذا المركب الحيوي 
في نهاية شهر يوليو 2021 ' خلال اجتماع مشترك بين تركيا و روسيا أكد وزير التجارة التركي ، بأن 
بلاده تهدف لتعزيز علاقات التعاون مع موسكو في مجالات الطاقة، مثل الغاز الطبيعي، والنفط، والطاقة النووية، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين . 
الحرب المستمرة حاليا ، جعلت العالم الغربي و على رأسه أميركا تبحث عن أشد العقوبات إيلاما لروسيا ، لعلها تتراجع عن هذا الطريق المحفوف بالمخاطر لطرفي الصراع الذي طال أمده و الذي كان يتوقع انتهائه في ساعات قليلة و لكنها دامت لشهور ، و قد خاب ظن بايدن في ساعاته ال 36 ، عند اندلاع الحرب . 
حتى ندرك حجم تأثير ركود النفط و الغاز الروسي ، و منع تدفقه المعتاد في شريان الشعوب الأوروبية ، بسبب من قرارات حكوماتها للدفع بوقف الحرب ، لا بد أن نعود  إلى الأرقام و الإحصاءات المتاحة عن حقيقة قوة النفط و الغاز الروسي في المعادلة الأوروبية أولا قبل كل شيء .
لا بد من الإقرار بأن البترول و الغاز في روسيا صناعة متكاملة ، و ليس مجرد مادة خام يصدر للخارج ، لأن هناك دول نفطية لا تملك مصانع لتحويل هذا النفط مثلا إلى منظفات فضلا عن تكريره و  واستخراج مشتقاته التي لا تحصى .
صناعة البترول في روسيا هي واحدة من أكبر الصناعات البترولية في العالم، حيث تمتلك روسيا أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعي وهي أكبر مصدر له. لدى روسيا وثامن أكبر احتياطي نفطي، وهي واحدة من أكبر منتجي و ثالث أكبر مستخدم للطاقة. 


من هذا المنطلق لا يمكن للعالم و لا نقول أوروبا وحدها فقط تجاهل هذا الواقع النفطي أو الغازي ، مهما كان حجم الأزمات التي تقع بين الدول فمن المنطق الذي تتغافله السياسة ، أن تفصل الملفات الشائكة عن بعضها للتمكن من حلها ، و لا يمكن لأي دولة و لو بحجم أميركا أن تضع كل الملفات الشائكة في يديها دون أن تتأثر بأشواكها . 
بالرجوع إلى بعض الأرقام عن حجم انتاج النفط و الغاز ، نصل إلى ما نذهب إليه حقيقة فاعلة في الحياةأن الناس ليسوا شركاء في الماء و الكلاء فحسب ، بل في معظم موارد الأرض .
نقول بأن روسيا أنتجت ما معدله 10.83 مليون برميل من النفط الخام يوميا في ديسمبر 2015 ، و هذا ينطبق في فترة الإستقرار ، حيث كانت تنتج 12٪ من نفط العالم ولها حصة مماثلة من صادرات النفط العالمية . 
فإذا وضعنا في الاعتبار  حجم حاجة الصين وحدها في العام 2030 ، و هو زمن قريب جدا يوميا للنفط الخام على مستوى كل الدول المنتجة للنفط لهالنا الرقم و لاحتجنا اعتبارا ، تصور أن الصين وحدها من بين كل الدول بحاجة إلى 50 مليون برميل يوميا .


و هذا يعني بأن كل دول " أوبك +  " عليه الاستعداد جديا لمثل هذا اليوم ابتداء من الآن و ليس غدا . 
أما حجم الغاز ، روسيا تعد أكبر احتياطيات لمصدر الغاز الطبيعي في العالم ، أما المصادر التي تشير إلى ذلك فهي ، وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ( 47.6 تريليون متر مكعب ، أما لدى إدارة معلومات الطاقة الأميركية ( 47.8 تريليون متر مكعب ) ، و أخيرا عند منظمة أوبك ( 48.6 تريليون متر مكعب ) 
نلاحظ هنا ، بأن الأرقام في المصادر المختلف متقاربة نوعا ما ، و لكن يفترض أن تكون إحصاءات أوبك أكثر دقة لأن ذلك من صلب مهامها ، و تعتمد عليها عبر تواجدها في الأسواق العالمية ، و بالتالي يؤثر على مداخيل أعضائها . 
إضافة إلى ذلك ، هناك تقديرات في هذا المجال عما لم يتم اكتشافه بعد من احتياطيات الغاز و النفط الروسي .
تقدر تلك الاحتياطيات من الغاز الطبيعي بما يصل إلى 6.7 تريليون متر مكعب ، وفق هيئة المساحة الجيولوجية الأمريكية ، و كذلك من النفط غير المستكشف ، يقارب 22 مليار برميل و هي الثانية في العالم بعد العراق .
هذه الصورة الواقعية ، لموقع النفط و الغاز الروسي ، يحمِّل العالم استحقاقات مركبة وقت الأزمات ، و ما يدور في أرض المعركة بأوكرانيا خير شاهد على ذلك ، و من قبله جائحة كورونا التي لم تنته آثارها السلبية على الاقتصاد العالمي رغم أجواء التعافي النسبي في مختلف دول العالم . 


يظن البعض ، بما أن أمد الحرب قد طال فوق التوقعات ، كما أنها قد تصل إلى حدود بولندا ، فإن الخوف الأكبر من أن تتحول الحرب الروسية- الأوكرانية ، إلى حرب الطاقة في كل أوروبا .
و قد بدأت معالم ذلك في الأفق القريب مع اقتراب فصل الشتاء ، هذا ما أوردته صحيفة *"وول ستريت جورنال" في 7/8/2022 و هي تُشير إلى أنه في الأشهر المقبلة ستضطر أوروبا للتنافس مع آسيا على الغاز المسال الروسي، منوهةً بأن حرب الطاقة في أوروبا ستؤدي لأسعار عالية، وتخلق اضطرابات اجتماعية، موضحةً أن الوضع في دول الاتحاد الأوروبي سيزداد سوءاً مع اقتراب فصل الشتاء؛ إذ إن الجبهة الثانية في المعركة من أجل أوكرانيا قد انفتحت، وهي "حرب الطاقة في أوروبا" .

 
في ذات الوقت خبراء روس في النفط و الغاز ينكرون تعرض روسيا للخسائر في هذا القطاع ، 
" روسيا اليوم " في 11/6/2022 ألكسندر نازاروف، خبير استراتيجي، يقول : إنه رغم انخفاض الحجم المادي لصادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، إلا أنه لا توجد خسائر في الدخل، إذ أن "غازبروم" تتلقى الآن ما متوسطه 2.5 ضعف أرباح العملات الأجنبية مقارنة بعام 2021 .
مع أن حالة الهلع التي تعيشها أوروبا من " حرب الطاقة " يفترض أن تقول العكس . 
وفق بلومبيرغ: عودة إنتاج النفط الروسي إلى مستواه في بداية العام حوالي 10.8 مليون برميل في اليوم .
ففي الوقت الذي انخفضت فيه صادرات النفط الروسية، إلا أن مواردها منه ارتفعت بشكل نسبي، والسبب هو زيادة أسعار النفط عالميًا .


صرح مسؤول في وزارة الخزانة الأمريكية، لـ"رويترز"بأن : سعر النفط قد يرتفع بنسبة 40 في المئة إلى حوالي 140 دولاراً للبرميل، إذا لم يتم تبني سقف سعر مقترح للنفط الروسي، فضلًا عن إصدار إعفاءات من العقوبات، تسمح بشحنات أقل من هذا السعر . 
و الهدف من تبني سقف سعر مقترح هو تحديد السعر عند مستوى يغطي تكلفة هامش الإنتاج لروسيا؛ لتحفيزها على مواصلة تصدير النفط، من دون السماح لها بتمويل حربها في أوكرانيا  . 
جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأمريكية، خلال مقابلة مع شبكة "سي إن إن" ذكرت بأن :  أسعار النفط لا تزال مرتفعة، وأوروبا تعمل على خطة لحظر واردات النفط  "الروسي"  .


هذا الصراع الناجم عن الطاقة التي تُفقد الإتحاد الأوروبي طاقة الاحتمال لديه إلى مستويات صعبة الاحتمال ، جعلت  المفوضية الأوروبية كما ورد في فرانس برس : تحث دول الاتحاد الأوروبي على خفض طلبها على الغاز الطبيعي بنسبة 15 في المئة خلال أشهر الشتاء المقبلة للتغلب على "ابتزاز" إمدادات الطاقة الروسية . 
يتضح من هذا الوضع ، بأن ادعاءات الاكتفاء الذاتي هكذا بالمطلق ، ضرب من الخيال ، و فاز مأثورة " الناس للناس " في الحرب و السلم ، فالطاقة هنا قد تتحول إلى حرب مستقلة عن كافة الحروب التي شهدتها البشرية منذ الخليقة ، فعليه يجب و لا أقول ينبغي ، لأن الموضوع خارج إطار الرغائبيات السياسية ، بل هو أخطر إن لم يجمع العالم أجمع على عدالة تبادل المصالح بين البشر كافة في الطاقة و من غير طاقة .