الخميس 21 نوفمبر 2024

دكتور عبدالله العوضي يكتب: شرم الشيخ .. على ميعاد

باور بريس

في مثل هذا اليوم من العام 2005 ، كنت في مهمة إلى شرم الشيخ ، فركبت  سيارتي متجها إلى المطار ، و أثناء الطريق تلقيت مكالمة هاتفية من المشرف على سير الرحلة لضرورة العودة و إلغاء السفر نظرا لوقوع عملية إرهابية في أحد منتجعات شرم الشيخ . 
لم تكن عملية واحدة ، بل سلسلة من الهجمات الإرهابية المتزامنة  في 23/7/2005 تم تنفيذها من " القاعدة " المتطرفة استهدفت هذا المنتجع الهادئ جنوب شبه جزيرة سيناء  ، حيث توفي من جراء ذلك 88 شخصا معظمهم مصريين ، و جرح أكثر من 200 من شدة الانفجار جاعلة من الهجمات تلك " أسوأ هجوم إجرامي في تاريخ البلد " 
لقد أحدثت هذه العملية الإرهابية شرخا في جدار الأمن ببلد قال المولى فيه " ادخلوها بسلام آمنين " ، بل لقد أوقف الإرهاب الزمن حتى يوم 20/3/2022 , و لمدة 17 عاما ، تغير فيه العالم من حولنا سبعة عشر مرة . 
لست هنا في صدد ذكر تفاصيل هذا التغيير ، ولكن الأهم الآن أنني في الطائرة التي تقلني إلى شرم الشيخ المنتجع الحلم الذي تحقق و لو بعد حين . 
ألقي نظرة من علِ   إلى خارطة الشرم الجوية المبهرة ، ترى كيف يكون منظرها على الأرض ؟
هذه المساحة الشاسعة التي تبلغ قرابة 500 كم ، مع عدد السكان لا يقل عن 40 ألف نسمة ،  والتي تعد أكبر مدن محافظة جنوب سيناء.
عندما هبطت الطائرة ، و دخلنا المدينة ، فإذا هي حورية البحر تستقبلنا بأبها حلة و أجمل صورة  ، شهادتي هذه ليست معلقة في الهواء ، بل هي من واقع تجارب مررت بها في منتجعات الدول الأخرى و ظننت أنها الأخيرة ، و لكن ما عايشته في شرم الشيخ تجربة مختلفة خارج إطار المقارنة . 
أستطيع أن أجزم بأن كل منتجع في هذه المدينة العروس ، هي في حد ذاتها مدينة متكاملة الخدمات ابتداء من مراكز للتسوق و انتهاء بميدان الفروسية ، و مسارح تقام فيها أضخم الاحتفالات الرسمية و الفنية و الشعبية. 
هل رأيتم مطعما مصمما من قمة الجبل إلى قاعه ، تجلس مع الرواد على الأرض ، دون أن يكون لك مكانا خاصا للحجز ، و من  دون أن ينزعج منك أحد يجلس بجوارك رجلا كان أو امرأة ، هذه صورة مصغرة للمثل القائل : الناس للناس من بدو و حاضرة . 
المنظر  الخارجي في  الفترة المسائية أقرب لبيت علاء الدين ، و لكنه شيء آخر قد يعجز الوصف عن وصفه . 
أماكن جلوس المرتادين موزعة في الكهوف الجبلية بطريقة ساحرة قل نظيرها ، و الذي ينتهي من  واجبات الضيافة ، لا يخرج من قصر هذا المطعم إلا وقد التقط له صورة مع لوحة حكمة مفيدة و مختارة من بين مجموعة كبيرة من الأقوال المأثورة لكافة حكماء العالم . 
من هذا المطعم الرائع ، إلى قاعة الاسترخاء في كوخ الملح الذي قضينا فيه ساعة من النهار نتعرف على فوائد البقاء في هذا المكان المليء  بالهدوء و السكينة ، وسط إضاءة تذهب بك إلى عالم من الخيال  للراحة و الاستجمام الذي قد لا يتوفر إلا في هذه الأجواء التي تحلق بالأرواح قبل الأجساد  عبر رحلة منغمسة برياضة اليوجا و لكن بطريقة مختلفة عما اعتاد الناس عليها . 
و في الجزء الآخر من ذات المكان هناك أحواض الدلافين  المخلوق الأقرب إلى مشاعر الإنسان الغريق قبل غيره . 
كيف يمكن تدريب الدلافين على " الأنسنة " و يأبى الإرهابي أن يعود إنسانا بعد أن غادرت طينة الإنسانية روحه ؟!
هذا الشعور راودني و أنا أقبِّل بعض الدلافين التي تخرج من الماء لتحية الضيوف القاصدين  قضاء وقت ممتع معها . 
إن من الأسهل على المرء أن يصف أي مكان ، أي صخرة ، أي جبل ، أي بحر .
أما الناس فأكثر تعقيدا . ما سبيل اقتناص جوهر شخص معين ، كيان محدد ، من خلال كلمة واحدة ؟ تستطيع أن تؤنسن مشهدًا و لكن كيف تؤنسن كائنا بشريا ؟ بوصفنا صحفيين ننعم بترف النظر إلى الناس كما هم . 
ثم انتقلت إلى قسم " الببغاء " التي تم تدريبها على جوانب من الإنسانية و هي طير بلا إرادة و لكنها لغة الفطرة التي تقهر  الإرادة إذا خرجت عن الفطرة السليمة و لو عند البهيمة .
ليس الإرهاب فقط يوقف رتم الحياة الطبيعية للناس و يعطل سيمفونية الأمل ، بل الحرب يدمر حب البشر للاستمرار في الطموح نحو و المستقبل .
و في إحدى الأمسيات قررنا التجوال في مدينة شرم الشيخ ،  من خلال طقس ربيعي لطيف ، فإذا بالهدوء و السكون يعم الارجاء التي كانت صاخبة قبل بدء الحرب الروسية - الأوكرانية في 24/2/2022 ، حتى هجت الناس قافلة إلى بلدانها ، بعد أن عكرت تلك الحرب أمزجتها و راحة بالها في هذه البقعة التي تبعد عن ميدان الحرب آلاف الأميال . 
لو علمنا كما أُخبرنا  عن عدد السياح الذين يتوافدون إلى هذه المدينة الساحرة و الجاذبة للناس كالمغناطيس ، من روسيا و أوكرانيا فقط لأُصبنا بالذهول و الدهشة ، فمن روسيا وحدها يصل عدد السياح إلى قرابة أربعة ملايين سائح و من أوكرانيا يقترب الرقم من 2 مليون سائح .
تصور لو أن كل سائح يصرف في اليوم الواحد مائة دولار على الأقل ، و حاصل ضرب هذا المبلغ يصل إلى ستمائة مليون دولار ، فكم يصيب هذا الآقتصاد السياحي بخيبة أمل ، و  لو أضفنا على ذلك إجمالي عدد السياح إلى مصر و هو  يقترب 4 ملايين سائح حسب أحدث الإحصاءات ، لعلمنا بأن الإرهاب و الحرب إذا تعاونا ، فإن حجم الخسارة لا تقدر لأي دولة .
الذي لفت نظرنا أثناء تجوالنا في المدينة صرح عظيم لمسجد  " الصحابة " من طراز فريد و قد حدثنا الإمام عن تفاصيل الهندسة المعمارية  ، عندما أشار إلى أن هذا البناء الممرد من مجموعة من التصاميم التي مرت على مختلف العصور الإسلامية ، ففي جانب منه تشم عبق القرون الثلاثة الأولى ، من فن العمارة الأموية و العباسية ، وفي زاوية أخرى منه تمثل الطراز الأندلسي ، و في ثناياه شيء من العمارة العثمانية كما هي في المسجد الحرام و المسجد النبوي ، و كذلك أضاف المهندس إليه تصاميم عصرية من وحي الحاضر ، لذلك لا نجد لهذا الجامع العريق مثيلا في مكان آخر إلا في هذه المدينة . 


ما ميزة هذا الجامع  و في هذه البقعة الخلابة من تراب مصر ؟


سألنا إمام الجامع البشوش و الدمث الخلق فأجاب : هذا جامع الناس ، أي الذي بناه لهم صفة واحدة ، إنهم ناس فقط ، مسلمين و غيرهم من بقية الأجناس و الأعراق و الأديان ، فهم جميعا البناة الحقيقيين و ليس للحكومة جنيها واحدا فيه . 
اسم الجامع " الصحابة "لم يأت من فراغ ، بل اعتبارا مؤكدا للصفوة الأولى من الصحابة الذين حجوا مع الرسول الأكرم و كان عددهم يقارب مائة ألف صحابي ، أوصلوا نور الاسلام باعتدال ضوئه و سماحة منهجه و انفتاح فكره ، إلى قرابة ملياري مسلم أي بما يوازي ربع سكان الأرض . 
هذا الجامع يتشرف بأن يواصل ذات الدور العظيم للإسلام الحق من أجل إفساد بضاعة الإرهابيين  ، لذا كان أحد شروط الإمامة الملزمة في هذا الجامع أن يجيد الإمام اللغات العالمية الثلاث قراءة و كتابة و محادثة ، أي  أن يكون رجل عصره و يشرب من زلال كأس الحضارة الإنسانية لاداء دوره على أفضل حال و راحة بال . 
من هنا ، كان رواد هذا المسجد كل إنسان يؤمن بالرب الديان من أي دين كان ، فالخطب و المواعظ و الدروس و حلق تحفيظ القرآن و الدورات التخصصية التي تعقد في هذا الجامع تشمل جميع رواد و زوار و سواح مدينة شرم الشيخ بلا استثناء ، لأن الهدف السامي من إنشاء هذا الجامع  تحويله إلى مركز للإشعاع الحضاري ، ليس فقط لتعريف الإسلام للآخرين . 
ثم انتقلنا بعد ذلك ، إلى أحد المنتجعات الفخمة للمشاركة في سهرة فنية ، بمناسبة عيد تحرير طابا 33 ، تحت رعاية المحافظ و حضور كوكبة من  كبار رجالات الدولة المصرية العميقة و العريقة. 
أما نجمة الحفل فكانت الفنانة المتألقة رهام  عبدالحكيم التي أحيت فينا عنفوان الشباب سواء في اختياراتها الكلاسيكية للزمن الجميل ، أو في جمال العصر الحاضر للشباب الناهض .
هل تعلمون ما هو الأهم من كل ما طرحناه من خلال هذه الرحلة الآمنة هو عودة مصر إلى عهدها الأصيل في قول المولى " ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين " .
فالعامل المشترك الذي جمع بين العام 2005 و العام 2022 ، هو الأمن و الأمان و الاستقرار ، لأن باستمراره ، تستمر الحياة هانئة مطمئنة ملؤها السكينة و غزارة الإنتاج في صناعة السياحة  و إدارة الإرادة الصلبة في تحدي التحديات و إذلالها لصالح الإنسان في أي مكان ، و هذا الذي تحقق في شرم الشيخ بعد أن أراد الإرهاب ممارسة فعل التدمير ، و لكن مصر أثبتت أنها عصية على ذلك و هزمت الإرهاب بالإعمار المستدام .