الخميس 21 نوفمبر 2024

دكتور عبد الله العوضي يكتب: في طابا .. طابت أرواحنا

باور بريس

أحلى المناسبات ، هي ما لم يضع الإنسان في حسبانه ، و تأتي هكذا من وحي الطيف في اللاشعور و لكنها أقوى من الشعور في الأثر 
لم أتصور بأني في يوم ما أقف على أغلى كيلومتر مربع في مصر أم الدنيا باستحقاق و جدارة معتبرة ، قصة استرجاع طابا لوحدها ملحمة بحاجة إلى تأصيل للتاريخ المعاصر .
هكذا تعاملت مصر الدولة و الشعب من خلفها مع هذا الشبر الأغلى رغم استرجاع سيناء كلها و لكنها كانت منقوصة إلا موضع هذا الشبر الذي أخذ من المسؤولين مناقشات مضنية لسبع سنوات عجاف ، و لكن خرجت طابا من بينها ثمينة بروح الوطن .. 
ففي يوم 19/3/2022 ، تشرفت بحضور حفل تحرير طابا ال" 33 " تحت رعاية معالي فؤاد فودة محافظ شمال سيناء المبارك و التي كلم الله فيها موسى عليه السلام تكليما .
هذا حديث الروح ، كما غنت سيدة الغناء العربي أم كلثوم حتى اللحظة لم تلد الأرحام مثلها :
حديث الروح للارواح يسرى 
وتدركه القلوب بلا عناء
هتفت به فطار بلا جناح 
وشق انينه صدر الفضاء 
حقيقة لقد اخترقنا الفضاء لكي نرتقي إلى حيث طابا ، و دخلت حفل العشاء ، و قد شعرت نفسي في قلب الخليج العربي ، الحضور المذهل بلباس عربي أصيل ، البشت و الغترة و العقال ، بل و لسان عربي بلهجة خليجية مبينة و قبائل متشابهة في الأسماء و الصفات و على رأسها الكرم الحاتمي النبيل .
في هذا الحفل البهيج اكتشفت أننا أمة واحدة من الخليج إلى المحيط ، أنشودتنا المغروسة في القلوب منذ الصبا و نحن نرددها في طابور الصباح و قت البكور مع باكورة الحياة . 
و أدركت بأن الفواصل مختلقة و الحواجز مصطنعة و الحدود تخترقها الأرواح الوقادة للوحدة الروحية قبل منغصات السياسات الدولية . 
كم جميل أن ترى بأن الذي أحيوا هذه الروح فينا غالبيتهم من ذوي الإعاقات المختلفة و نسميهم نحن في الإمارات بأصحاب الهمم .
لقد افتتح الحفل قارئ القرآن فاقد البصر و لكنه ذا بصيرة وقادة ، و المنشدين للوطن كذلك هم و لكن هممهم تخترق جبال سيناء التي رسمت منها تحفا فنية من صنع الله و من أحسن من الله صبغة و تلوينا سبحانه . 
سبحان الله و الله أكبر ، هذه الكلمة التي هزت بدن " خروشوف " أثناء حضوره حفل تدشين قناة السويس و هو بجانب الرئيس الراحل عبدالناصر  ، فعندما تدفقت المياه في القناة الجديدة التي بناها السوفييت ، ردد الجماهير الغفيرة المتواجدة في تتويج هذا العمل الضخم ، صدح الحضور بصوت واحد " سبحان الله و الله أكبر " فسأل خروشوف عبدالناصر عن ما يردد هؤلاء ؟ قال : يسبحون الله و يكبرونه ، قال : كيف ذلك و نحن صنعنا هذه القناه ، و شعبك يرد الفضل إلى الله . قال عبدالناصر : هذه فطرة شعبي و لا طاقة لي بها في تغييره ، " فطرة الله التي فطر الناس عليها " و شعب مصر ليس مستثناة من ذلك .
هذه روح مصر الأصيلة ، سواء في حفل طابا  و في افتتاح قناة السويس أو في أي مناسبة أخرى فهو شعب الفطرة الذي وحد الآلهة منذ عهد الفراعنة و هم كذلك إلى الأبد موحدين منذ أكثر من سبعة آلاف من عمر السنين و هو عصي على الزمن لأبد الآبدين  . 
لقد حضرت حفلات كثيرة يصعب علي الحصر ، و لكن الأجمل في هذا الحفل جمال البساطة ، كما يقول المثل الأجنبي " More Simple More Beautiful " ، كنا تحت سقف خيمة بدوية ضخمة و لكنها أنيقة  ، زينتها جمال أخلاق الحضور و أذواق الجمهور .
و جاء وقت التكريم غير المعتاد في الحفلات المشابهة ، فبدأ المحافظ بنفسه معلنا على الملأ قيمة تكريم كل المشاركين في إحياء الاحتفاء بعودة الوطن في شبره مع صغر مساحته .
و من بعد المحافظ توالت الأيدي البيضاء باستكمال أركان التكريم المميز في لفتة انسانية مليئة بالمعاني اللامتناهية في ميزان الوصف المعجز باللسان مع مداد الأقلام السنان . 
لم يكن على مسرح الحفل عرض لشهادات التكريم كالمعتاد و لكن شهامات الرجال ، و هامات الرجال البواسل الذين ضحوا بأرواحهم لدحر الإرهاب و غدره بالأوطان . 
و كان المثال الرائع من قبل إحدى الفتيات اللاتي فقدت أختها غدرا بيد أحد الإرهابيين أمام العيان و عينيها شاخصتين من هول المشهد المرعب .
قدمها لنا معالي المحافظ كنموذج مشرق للتضحيات ، و قد تبناها كإبنته و هي بذرة في وقت الحادث الأليم ، و لكن اليوم أصبحت شجرة وارفة الظلال  تكمل مشوارها الجامعي بكل ثقة و اقتدار تعويضا عما فقدتها في اختها المغدور بها ، فغدت قمة في الإيجابية بأعلى سلم الرقي الإنساني الذي يتحول فيه الألم إلى تصميم في استكمال مشوار الحياة بدل ثقافة الموت من أجل العدم  .
فهذه الفتاة لا تقل إرادة عن كل الذين ساهموا في تحرير طابا العزة و الرفعة في ميدان المعركة أو في أروقة المحادثات الدولية و القانونية عبر جميع القنوات المتاحة و المحفوفة بالصعوبات و المشقات ، و لكن في النهاية انتصرت الإرادة المصرية على الإدارة الدولية الجائرة .