دكتور عبدالله العوضي يكتب: النفط .. نفاد أم نفوذ ؟!
منذ العام 1997، و أنا أشارك في حضور المؤتمرات الخاصة بالنفط ،
و منذ ذلك الوقت و العالم لا يتحدث عن إغلاق حقول للنفط بقدر ما يبحث عن حقول جديدة .
رغم أن الدول المتقدمة ، اتجهت نحو مصادر بديلة للنفط القابل للنفاد مثل أي مورد من الموارد الطبيعية ، إلا أن الصراع على النفط لا زال على أشده مقارنة بأي مورد آخر .
لم يعد النفط سلعة اقتصادية خالصة من شوائب السياسة في أي دولة أو أي منظمة ، تسعى بعض الدول الكبرى لممارسة قوة كبريائها و تضغط بعظمتها على عظمة الدول المنتجة للنفط للرضوخ إلى شروطها المجحفة في زيادة نسبة الإنتاج أو تخفيضها حسب مزاج الساسة و ليس المصلحة العامة للجميع أحيانا .
كنت في رحلة قصيرة إلى باكو عاصمة اذربيجان ، و مما لمحته على الأرض بروز شعلات النار على مساحات شاسعة ، فعلمت حينئذ بأن ما سمعته في بعض المؤتمرات النفطية حقيقة مشتعلة على الأرض في باكو ، فالطبيعة الجيولوجية هناك أوصلت النفط إلى السطح بشكل تلقائي و هي ظاهرة نادرة إلا في هذه البقعة المضيئة بالنفط الخام .
و في منتصف التسعينيات حضرت مؤتمرا متخصصا في نفط أذربيجان ، و لكن الهدف هنا من خلال أوراق عمل المشاركين ، كان تحويل هذا النفط من الطبيعة الجيولوجية إلى البعد الجيوسياسي .
و كان الطرح آنذاك منصبا على الاستفادة من نفط أذربيجان ، كبديل محتمل لنفط الخليج الذي يعتبر الأرخص و الأسهل في عمليات الاستخراج لأنها تعتبر جيولوجيا قريب من سطح الارض ، و لكنه ليس مقاربا لحقول باكو في هذه الميزة .
و لم يمض هذا المشروع المنافس على ما يرام كما كان مخططا له ، بسبب من تكاليفه الخيالية التي أعجزت ميزانية الشركات عن الإيفاء بتعهداتها كما أرادت .
بقي نفط الخليج لعقود في قلب المنافسة المعتدلة ، فلم يتم استغلاله كسلاح سياسي ، بل كان احتياجات المستهلكين في نصب عين المنتجين في أوبك ، منذ أن كان سعر البرميل دولارا واحدا في بدايات الاكتشافات ، و كانت أميركا تعيد هذا البرميل بسعر خمسة آلاف دولار ، على هيئة مشتقات مختلفة .
لقد اشتدت حدة الصراع السياسي على النفط عندما أصبح التنافس عليه في الأسواق البيضاء و السوداء شرسة و كذلك مؤذية لبعض الدول التي تعاني من غصة العقوبات الاقتصادية عليها ، بسبب الحروب التي خاضتها أو لعدم رضوخ البعض منها لإملاءات الدول الغربية و على رأسها أميركا التي تهدد بجعل الماء أغلى من النفط .
و بعد أن قاربت أسعار أرقاما قياسية في الارتفاع و الانخفاض ، خاصة ما بين الأزمتين ( الكرونية و الأوكرانية ) ، حيث وصلت أسعار النفط من الصفر إلى قرابة 120 دولار ، بل الأكثر إيلاما للغرب ، أن فنزويلا الدولة النفطية الأولى في العالم من حيث كمية الإنتاج ، تقوم بإهداء جيرانها بالمجان أو بخصومات لا تخطر على البال .
و أثناء الحرب الروسية الأوكرانية ، قامت الهند بشراء النفط الروسي بتخفيضات تصل ما بين 25 - 30 % مقارنة بفترة ما قبل اندلاع هذا الصراع في 24/2/2022
و في مؤتمر آخر كان الحديث منصبا على الدراسات المستقبلية التي تتحدث عن أعمار النفط وفقا لاحتياطات الدول في حقولها غير المستخرجة ، ففي تسعينات القرن الماضي كانت التوقعات تشير إلى نفاد النفط خلال مائة عام كأقصى مدة ، و أنه لا بد من اتخاذ اجراءات سريعة لإطالة عمر البقاء و الحد قدر الإمكان من الفناء .
كيف ؟! هذا السؤال في صميم عمليات الإنتاج و غزارتها ، أي بعنى استخراج النفط من الحقول بأقصى طاقتها من دون حاجة السوق إلى ذلك ، و هي عملية تقصر من أعمار الأجيال المقبلة.
النفط في حد ذاته ، رهان المستقبل ، و ليست ثروة آنية ، استهلك في حينها ، فالخبراء الذين ينظرون من خلال ثقب المستقبل يرون بقاء النفط الخام في باطن الأرض أفضل من السرعة في استهلاكه ، و هكذا يمكن إضافة 50 عام آخر إلى العمر الافتراضي لمليارات البراميل المخزنة لإضاءة المستقبل بأنوارها .
و من تصاريف القدر ، أن كثير من تلك الاستشرافات المستقبلية ، لم تكن دقيقة في نتائجها بعد مرور عقود على إشباعها بحثًا و تنقيبا عن ما يؤخر في نفاد النفط في مختلف دول العالم التي تعتمد عل النفط بنسبة كبيرة في وضع موازناتها السنوية .
بعد الانتهاء من مداولات هذه المؤتمرات ، اطلعت على صور الأقمار الصناعية لخرائط عن مكانن النفط في جنوب السودان قبل التقسيم ، فعلمت أن لرائحة النفط النفاذة دور ما في الوضع السياسي للسودان الذي لا زال يعيش تحت طائلة العقوبات الدولية .
و في لبنان تم اكتشاف حقول واعدة يمكن أن تنتشله من ضيق الأزمة الاقتصادية التي تمسك بخناقة منذ عقود ، فهناك مليارات من براميل النفط و مكعبات الغاز تنام تحت سطح شرق البحر المتوسط ، و لكن إسرائيل لها بالمرصاد !
مضت الاجتماعات بين مسؤلين لبنانيين و نظيرهم من الإسرائيليين بهم بعيدا عن الحل منذ أكثر من عشر سنوات ، و رغم التنازلات الكبرى من الطرف اللبناني إلى نسبة 26% لصالح الدولة اللبنانية ، إلا أن الطرف الآخر مصر على أكثر من 100% .
و في ذات المكان من شرق البحر المتوسط يوجد ذات الصراع و التحديات على النفط و الغاز بين تركيا و اليونان و مصر و إسرائيل و ليبيا في تفس الاتجاه ، باسترجاع تاريخ المعاهدات القديمة و الحديثة التي لا زالت قيد البلورة ، و لكن الإطار الجيوسياسي لا يساعد على الحسم حتى حين .
لو غصنا إلى عمق هذه المنطقة لعلمنا مدى أهمية ملف شرق البحر المتوسط بالنسبة لتركيا. فهو ملتقى الطرق الاقتصادية والاستراتيجية للقارات الثلاث. وإنه مجال مهم للصراع حيث يتم تقاسم السلطة والهيمنة .
أما توقعات القوى العالمية من تركيا هي الابتعاد عن التحركات التي يمكن أن تنشّط خطوط الصدع التاريخي في البحر المتوسط ، و تعزيز تركيا لوجودها في شرق البحر المتوسط بأجندة سياسة خارجية مستقلة غير تابعة لحلف "الناتو" أمر لا يرغب فيه حلفاؤها الغربيون .
و لمصر كذلك من هذه الكعكة الغازية نصيب ، فهي تسعى لبناء منصة لتصدير غاز شرق الأوسط إلى أوروبا .
و مصر من ناحية أخرى ، أحد منافسي تركيا في خضم الآخرين ، لذابدأت أنقرة باتخاذ خطوات فعلية لاستعادة النفوذ الذي فقدته أمام منافسيها الإقليميين اليونان ومصر، في شرق المتوسط .
فباتت على استعداد للتعاون مع الإسرائيليين وتقديم نفسها كبديل يستطيع استقطاب الاستثمارات اللازمة لاستخراج الغاز من شرق المتوسط وتوريده إلى أوروبا .
و هي تدرك أنه من المستحيل أن تتوصل إلى اتفاق مع اليونان وقبرص لذلك سعت لإعادة علاقتها بإسرائيل، لكن ما يزال ينقصها اتفاق جزئي مع مصر .
و لم تسلم ترك تركيا كذلك من العقوبات في هذا الشأن النفطي ، لقد اعتمد الاتحاد الأوروبي في 6/11/2020 تمديد نظام العقوبات المفروضة على أنشطة الحفر التركية غير المصرح بها في شرق البحر المتوسط لمدة عام كامل .
هذا و سبق هذا الإجراء ضد تركيا ، تأكيد كليمان بون، وزير فرنسا للشؤون الأوروبية ، في 16/11/2020 احتمالية وجود عقوبات اقتصادية ضد تركيا من قبل الاتحاد الأوروبي، بسبب مواقف تركيا العدائية على الحدود الأوروبية، ويضيف "لقد منحنا فرصة في القمة الأوروبية الأخيرة لتركيا عندما تمسكت بالتهدئة، والآن تركيا تختار طريق الاستفزاز والعدوانية الممنهجة"
و دعم هذا المسار في 11/12/2020 ميركل، المستشارة الألمانية السابقة عند قولها : قررنا تمديد العقوبات ضد تركيا لكننا نرغب في حوار إيجابي وبنّاء مع أنقرة ، كنا نتمنى علاقات أكثر إيجابية مع تركيا خلال رئاستنا للاتحاد لكننا نعتبر التنقيب التركي في شرق المتوسط غير شرعي .
و في 1/1/2021 ، وزارة البترول المصرية، توقع 9 اتفاقات جديدة للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في شرق وغرب البحر المتوسط والمياه الإقليمية بالبحر الأحمر مع 6 شركات عالمية ومصرية .
و بعد ثلاثة أشهر تقريبا من هذا التوقيع ، الرئيس السيسي أبدى تقبله لاعتراض اليونان على خرائط التنقيب وأعلن استعداده للتوافق ، فاستبدلت وزارة البترول المصرية خريطة مناقصات التنقيب استجابة لملاحظات اليونان .
و المنافس التركي ماض في خططه في هذه المنطقة المشحونة بالمتنافسين ، و في 3/7/2021 ، أعلن الرئيس التركي، استئناف بلاده عملياتها التنقيبية عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط، سيُأجِّج التوترات مع الاتحاد الأوروبي واليونان وسط محاولات لإصلاح العلاقات المضطَّربة؛ إذ أن أنقرة على خلافات مع اليونان وقبرص العضوين في الاتحاد الأوروبي، حول موارد الطاقة والولاية القضائية في المنطقة .
هذه الصراعات تدل على أن نفوذ النفط أو الغاز زادت عن العقود و العهود السابقة على تاريخ هذا المورد الذي مع الأيام تزداد حيويته و أهميته رغم البحث الحثيث عن البدائل الأخرى للطاقة المتجددة
من أموال النفط ذاته .