الجمعة 17 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
أحمد ابو القاسم

دكتور عبدالله العوضي يكتب:الشيخ زايد ..من وحي الخاطر

باور بريس

 

البداية.. 1918

 

نهاية الحرب العالمية الاولى ، و بداية صناعة " الدولة الاتحادية " بولادة زايد ، التاريخ مهم و لكن الحدث أهم .

ماذا فقد العالم العربي و الإسلامي آنذاك ؟! فقد .. القائد .. الرمز .. الأيقونة .. البوصلة .. الرؤية .. الحكمة.. الإلهام .. الإنسان صاحب البصيرة المبصرة.. الفطرة السليمة .. الرجل العفوي .

تلك الفترة العالم كله مضطرب ، بسبب الحرب ، بالمقابل كان العالم العربي و الاسلامي أكثر اضطربا ، بسب الهزات الارتدادية لهذا الزلزال السياسي و الاقتصادي و الإنساني .

و سط هذه البيئة العالمية نشأ الشيخ زايد رحمه الله لمدة ثلاثة عقود في صحراء فتحت عليه آفاق الفكر الذي لا يحدها شيء .

 

لحظة .. البناء

 

بعد ثلاثة عقود من التربية المتأنية ، و استلهام التجربة الحياتية ، و النضج العملي ، سئل يوما عن مثله الأعلى في ذلك ، أجاب : ثلاث قدوات أثرت في شخصيته ، الأول سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم ، و الثاني والدته و الثالث المتنبي .

جاء حكمه لمدينة " العين " تجربة فريدة ، لمدة عشرين عاما ، من 1944 إلى 1966.

لقد سقى " العين " بماء عينيه ، و حافظ عليها بقوة ساعديه ، عندما شارك الأهالي في حفر الآبار ، حتى تنبع المياه بين أصابع يديه ، فيشعر آنذاك بسعادة لا تسعها الدنيا .

أثمن شيء عند زايد " الماء " شريان الحضارات الإنسانية بلا منازع ، التحدي الاكبر الذي استطاع زايد أن يثقب جداره بجدارة ، و يقلب " العين " خلاله إلى روضة غناء في زمن قياسي في عمر البناء الحضاري .

ظهر على السطح تجار حاولوا احتكار الماء العذب، فلجأ الناس إلى عدل زايد لإنقاذهم من جشع التجار، فأصدر بحكمة عدله وثاقب رؤيته قرارات ثقبت براميل و تناكر المحتكرين، عندما سد هذا الباب بتشريع مجانية الماء الذي منع بيعه بالمطلق، فكم بلغ فرحة الناس آنذاك من هذا القرار المصيري، فزايد قضى عقدين يُحيي العين بماء الحياة.

زاره خبير غربي قبل اخضرار العين و جريانها ، ناصحا زايدا بعدم النفخ في قربة مخرومة ، فلم يعره اهتماما ، بل تحداه قائلا : ارجع إلينا بعد سنوات ، فانظر ماذا ترى ؟!

فعلا عاد الخبير إلى العين ، فاحتاج إلى أربعة أعين مبصرة لكي يدرك و يعي حقيقة ما قام به زايد مما يعد إعجازا و إنجازا بيئي منقطع النظير فحق بأن ينال لقب رجل البيئة الأول منذ تلك اللحظة التي غاصت يده في حفر " الشرائع " ، من قبل غرس الفسائل ، التي تحولت في ظرف عقدين إلى عقود خضراء حول رقاب أهل العين جميعا تسر الناظرين .

بين العام. . ( 1946 - 1966 ) حينه زايد حاكماً للعين دار الزين. أسمعتم عن حاكم يصرف من ماله الخاص على مدينته عند عدم استيفاء الميزانية للاحتياجات، وعندما ينتهي ما في الجيب من أين يأتي بالمال، هل يتوقف زايد أيقونة العطاء ولو لم يملك شيئاً؟ فكان يلجأ إلى الاستدانة لكي يعيش شعبه في رفاهية.

وعندما انتقل زايد إلى مرحلة حكم أبوظبي وتوفر المال بين يديه فتح كنز العطاء على شعبه، فبدأ بالأكثر حاجة فدعاهم إلى مجلس عام بعد أن بعث رجال قصره لتفقد أحوالهم، فعندما علم بحقيقة أوضاعهم المادية اجتمع إليهم، فأعطى كل واحد المال الذي يكفيه مؤونة سنة كاملة، حتى وزع عليهم في غضون أسبوع قرابة عشرين مليون دولار.

 

رؤية حضارية

 

 

الإمارات شرعت في التعامل مع البعد الحضاري، قبل الوصول إلى مرحلة الاتحاد بفترة زمنية طويلة .

بدأ الشيخ زايد أولى مشاريعه الزراعية بالعمل على تجديد أنظمة الري التقليدية لإيمانه التام بقدرة الزراعة على رسم صورة مغايرة لحياة الناس

وهو صاحب المقولة: «اعطني زراعة.. أعطيك حضارة»لقد زرع طوال حياته قرابة 150 مليون شجرة وأوصل الإمارات إلى احتواء 20% من نخيل العالم. وهكذا تبينت فلسفة زايد التي تركز على أن الإنسان هو العمود الفقري، وهو الأساس الذي يقوم عليه بناء أي حضارة إنسانية، وهو محور كل نهضة حقيقية ومستدامة.فكر اخترق نفق الزمان منذ خمسين عام و لا زال في تواصل مع الأزمان.

عشت في العين آنذاك أربع سنوات سّمان في «جامعة العين» ، أذهب في عز القيظ بعد العصر إلى حديقة الهيلي للمذاكرة وسط النسيم العليل للحديقة التي تشهد معنا على آثار زايد .

 

أبوظبي .. و إنقاذ الظبي

 

زايد من العين إلى أبوظبي، حمل معه قصة هذا الماء التي لم تغادر هاجس تفكيره، فليس في العاصمة مجال لحفر الآبار لطبيعة الجزيرة المالحة .

حاكم العين الذي أصبح حاكماً للإمارة كلها وبجزرها المائتين لم يقبل بأن يكون سكانها عطشى، فاتجه بناظريه إلى البحر الذي يحيط بأبوظبي، فلم يقبل لظبائها أن تَنَفق عطشاً، فحول الماء المالح إلى العذب ليزيل السبخ عن جباه الظباء ، هذا هو التحدي الأكبر الذي استطاع زايد التغلب عليه.

في بداية فترة حكمه لأبوظبي ، قام زايد بجولة ميدانية ، فدخل أحد الأحياء السكنية ، فإذا بها غارقة في الماء الهادر من حولها ، فتوقف برهة و هو في أشد حالات الحزن على أمر قد دفع ثمنه من زهرة شبابه أثناء حكمه للعين ، كيف يترك هذا الشأن بلا محاسبة ؟!

لقد بادر بنفسه الإتصال بمسؤول الماء و الكهرباء ، للاستفسار عن هذا الهدر ، فرد بعدم علمه بذلك فحمل نفسه مسرعا من أجل تدارك الأمر فنيا و إداريا .

ترك زايد المكان ، و عاد إليه بعد أسبوعين ، فإذا بالوضع أسوأ من السابق ، فعاود الإتصال به معاتبا على استمرار إهماله تجاه ثروة الإمارة المائية ، ثم أمره بالجلوس في البيت .

و بتغلب زايد على هذا التحدي يتحقق فيه قول " توينبي " : " إن التحدي هو الذي يخلق رجل الأحداث ، و القادة لا يزدهرون في أسهل الظروف ، و إنما - على العكس - يزدهرون في الظروف التي تتحداهم أشد التحدي ، و كلما ازداد التحدي ، صاروا أكثر عظمة ، و الانتصار على الصعاب و العقبات تؤهل لرجال الأحداث تبوأ الزعامة ، ذلك أن الشعوب تعجب بالأعمال قبل الرجال .. و إذا أعجبت بالأعمال فإنها سرعان ما تمنح الرجال الثقة و تعطيهم زمام القيادة "

صادف في أوائل السبعينيات من القرن الماضي أن صديقاً لي كان يعمل في «ورشة» شيوخ آل مكتوم، حيث طلب مني مرافقته إلى أبوظبي لإعادة إحدى سيارات الشيخ راشد، رحمه الله من هناك، فكنت طوع أمره ولي الفخر. ولأول مرة أقطع طريقا لقرابة 140 كيلومتراً وكأنها ألف كيلو متر لأنها طريق قاحلة لا ترى فيها زرعاً ولا ضرعاً أو طيراً. ولم يمض على هذا الحال سنوات معدودات حتى زانها زايد بغابات ممتدة إلى قلب عاصمة الدولة الاتحادية الناشئة، فكانت فلسفته تكييف الهواء وتبريده و راحة الإنسان العابر من هنا تحت ظلال الأشجار وإطعام الطيور المحلقة في سماء ربها عندما تطير خماصاً وتعود بطاناً.. كل ذلك بفعل إدراك زايد لأهمية الماء الذي كان يزعجه الهدر فيه إلى حد الغضب.

 

اكسبو 1970 .. مغناطيس اكسبو 2020

 

و بعد مضي خمس سنوات على حكمه للعين ، و في أول رحلة خارجية له في العام 1953 إلى بريطانيا و فرنسا تأثر بالنهضة الحضارية بعقله و روحه المنفتحة على تجارب الآخرين و أفكارهم ، و أقام على أرض الوطن نهضة تضاهي تلك التي وجدها هناك .

و بما أن الدولة استقبلت اكسبو دبي 2020 ، هذا الملتقى الحضاري العالمي ، فحري بنا أن نؤكد على استمرار نظرة زايد نحو هذا الأفق المستقبلي ، عندما شاركت أبوظبي في اكسبو 1970 اليابان بمدينة أوساكا ، و قد شكل وفدا رفيع المستوى برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد ولي عهد أبوظبي آنذاك .

هذا الإدراك المبكر للتواجد في هذا المحفل العالمي ، دلالة فارقة لما ستكون عليه الدولة بعد الوحدة و الإتحاد .

 

منبع العلم.. و ماء العين

 

في العام الدراسي 1976/1977 ، تم افتتاح " جامعة العين " النبع الآخر لحضارة الإمارات في بواكير اتحادها ، و أذكر يومها كنت في إدارة البعثات بوزارة التربية و التعليم ، من أجل اتخاذ قرار الابتعاث إما إلى مصر أو الكويت ، و لكن قرار افتتاح " جامعة العين " هو المصير الجميل الذي لجأت إليه بلا تردد ، بل كانت بشارة في الوقت المناسب .

منذ السنة الجامعية الأولى حرص الشيخ زايد على إرسال الطلبة و الطالبات ، في عطلة الصيف إلى شتى دول العالم شرقا و غربا بهدف الإطلاع على المنجزات الحضارية للمجتمعات المتقدمة .

و كنت ضمن المجموعة التي سافرت إلى هولندا و بلجيكا ، و كان زيارة الجامعات على رأس الأولويات في برنامج الرحلة العلمية .

و في الجامعة التي زرناها دخلنا مصنع لصناعة السيارات الكهربائية التي كانت من مشاريع الطلبة آنذاك ، و نتاجها اليوم شاهد أمام بيوتنا في مختلف إمارات الدولة ، فكر اخترق نفق الزمان منذ خمسين عام ليتواصل عطاؤه لقابل الأزمان .

 

اللقاء .. الأول

 

في منتصف السبعينيات طلبنا من رئيس الجامعة ، أن يرتب لنا لقاءا مع الوالد الشيخ زايد ، أجاب : بأنه على استعداد لإيصال مطالبنا إلى سموه .

و لكن الطلبة أصروا على هذا اللقاء التاريخي معه مباشرة ، من غير حواجز و لا ترجمان من أحد .

عندما علم الشيخ زايد قصدنا من الاجتماع معه ، قام بزيارة إلى العين لهذه الغاية .

و في الوقت المحدد قرر الطلبة القيام بمسيرة على الأقدام من الجامعة إلى مقر إقامته في قصر المقام بمدينة العين ، لمسافة لا تقل عن عشرين كيلومتر .

و كان يوما عصيبا مليئا برياح سهام العين الخارقة لمسامات أجسامنا ، و شمسها الحارقة .

و لم يكن الشيخ زايد يعلم بأننا قادمين عليه راجلين ، و بعد ما عرف علق قائلا : " هذا جنون ، صدق إنهم ما يدرون عن خطورة المشي في هذه الأجواء الصعبة .

هنا تحرك " الإنسان " في الشيخ زايد ، فوجه أوامره لكل الجهات الأمنية بتوفير سيارات مناسبة لتنقلنا عنده في أسرع وقت خوفا علينا من ضربة الشمس لطول الطريق إلى مقر إقامته .

منظر الدخول عليه كان مهيبا ، توقعنا في تصورنا الذهني و مخيلتنا بأنه ملك يجلس على كرسي العرش في قصر مرصع بما غلا ثمنه ، و لكن الواقع الذي رأيناه يجلس متواضعا على الأرض كما نجلس نحن في بيوتنا على ذات الأثاث التقليدي .

فبدأت راحة أكفنا تصافح قلبه و ليس يده ، و البشارة و البشاشة لا تفارق محياه ، و الفرح و السرور باد على وجهه طوال وقت اللقاء الذي طال .

ترى ماذا كانت مطالب الطلبة من هذا القائد الوالد في تواضعه ؟!

تخفيض أسعار البترول محليا ، لأنها كانت عبئا على الطلبة الذين يستخدمون مركباتهم الشخصية من الإمارات البعيدة عن العين .

و قد تحدث الطلبة عن هذا المطلب بصوت واحد ، فرد الشيخ زايد بكلمة واحدة قصيرة : " تم " .

فلم يزد الطلبة عن ذلك ، فهمّوا بمغادرة المكان بعد الاستئذان ، فبادر الشيخ زايد قائلا : ضاربين درب بس عشان هذا الطلب ، عيالي قولوا لي كل اللي في خاطركم .

جاء الإذن من صاحب الشأن ، فتحدث الجميع مرة واحدة ، و لكن مدير مكتبه تدخل و قال : واحد واحد لو سمحتوا . قاطع الشيخ زايد هذا المسؤول قائلا : عيالي يايين عندي و اللا عندك .

ثم وجه الشيخ زايد كلمته إلى الطلبة قائلا : اختاروا أكبركم سنا ليتحدث عنكم .

دب الهدوء في الجميع ، و ساد الصمت و كأنما على رؤوسهم الطير .

فاختار الطلبة طالبا قد عاد إلى الجامعة بعد 16 عام من انتهائه من المرحلة الثانوية، بعنى أنه كان مؤهلا و متحدثا مفوها لفارق الخبرة الحياتية .

بدأ حديثه بالثناء على الشيخ زايد و بما يليق بمقامه السامي ، فقال طال عمرك انت ما مقصر أبدا ، و لكننا نشعر بتقصير بعض الوزراء و خاصة في المناطق الشمالية التي بحاجة إلى عناية أكثر لبعدها عن المركز ، فحالة البيوت و الشوارع و الخدمات الضرورية ، ليست كما أنت تصبوا إليه .

رد الشيخ زايد قائلا : فالكم طيب و اللي تبونه يصير .

و كانت أصداء الزيارة الاولى ، في اليوم التالي تسد أفق الاعلام الرسمي للدولة ، و كل ما تم تناوله انطبقت عليه الكلمة السحرية " تم "

رجل..دولة

 

في مسيرة التاريخ مرت الدول بموجات صعود و هبوط اضطرارية ، و لكنها صادمة لحركتها و معوقة لتطورها و نمائها .

تدحرجت و انهارت عروش ، و ذلك اختبار صعب و امتحان معقد لمعرفة الفرق بين رجل دولة و رجل يحرق دولة .

متى يقع هذا الخلل ؟! عندما يصبح الفرد هو الدولة و هي في خدمته ، و لا يغيب عنا هنا من حكم الوالد الشيخ زايد رحمه الله عندما سئل عن قيمة ووزن رجل الدولة ، فقال : لو كان يشترى لما استكثرت عليه المال .

و لكن زايد رحمه الله صنعهم صناعة كما صنع دولة اتحادية ، ترى مئويتها بين عيني من خلفه قادة عظام ورثوا رؤيته و أقروا عينه .

و من مقولات زايد التي رسخت هذا المفهوم " الولاء على قدر العطاء "

في الفترة الأولى من تأسيس الدولة هاجرت بعض القبائل في الدولة الفتية إلى دول أخرى مجاورة ، فقط ، لأن زايد لم يكن يملك سعة " العطاء " التي تغني القبائل ، و كان يرد عليهم قائلا : هذا وطنكم و ستعودون إلى حضنه في المستقبل القريب ، فقلوبنا مفتوحه لكم قبل أراضينا .

لم تمر سنوات قليلة حتى هجت ذات القبائل للرجوع و أكثر ، فصدقت مقولة زايد فيهم .

 

دبلوماسية.. القبائل

 

بعد عشرين عام من تجربة الحكم في مدينة العين ، دخل زايد معتركا عظيما لحكم أبوظبي ، لقد كبر حجم المسؤولية لديه أكثر لأن عقله انشغل في قضية أكبر من حكم أبوطبي وحدها .

الإتحاد و الوحدة و التكامل الوثيق بين الإمارات المتفرقة و إن كانت " متصالحة " في النسيج الاجتماعي .

سياسة التوحيد بين القبائل ، ليست كالتوحيد بين الدول ، الفروقات بين النهجين شاسعة و معقدة في التفاصيل ، إلا أن كل ذلك لم يفت في عضده .

منذ توليه حكم أبوظبي في العام 1966 و إلى العام 1971 ، كان " الإتحاد " شغله الشاغل و همه الظاهر ، و قد زار شيوخ الإمارات المتصالحة ، يعرض عليهم فكرة الإتحاد و وحدة القلوب ، دون ضغط و لا إجبار أو إكراه ، و قد سمى أحد الغربيين هذا السعي الدؤوب ب" الدبلوماسية القبلية أو دبلوماسية الصحراء " الى أن تمكن الشيخ زايد من خلالها توحيد القبائل تحت راية الإتحاد و هذا هو سر النجاح المستمر في جذور ذريته .

و قد تُوجت هذه الدبلوماسية الرشيدة في 2/12/1971 ، دولة اتحادية اخترقت التاريخ و اختزلت المسافات و أحرقت مراحل الزمن في سرعة مدروسة و محسوبة خطواتها للدخول إلى ميدان السباق الحضاري الذي نجني اليوم ثمار مئويتها .

نقول للتاريخ بأن حكمة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله أنارت السبل نحو تحقيق الاتحاد الحلم

الذي شغل تدشينه تفكير زايد من أجل تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة، هذه البقعة من الأرض التي ستغير وجه التاريخ العربي من جديد، وهذا ما تحقق بصحوة القائد زايد.

 

التأسيس.. خطوات عملية

 

فكرة الاتحاد التي خامرت عقل الشيخ زايد ووثوقه من ان الاحلام سوف تتحقق في يوم من الايام, ولم تمض على هذا الشعور سنوات حتى دخلنا العام 1968 ، حيث بالفعل وليس بالقول بدأت الاحلام تتحقق مع انطلاقة السادس من اغسطس من ذلك العام, الذي يعتبر بحق صفحة مشرقة في تاريخ دولة الامارات الحديث, حيث اكد الشيخ زايد بهذا الصدد على تحقيق الهدف الاول من توليه سدة الحكم في امارة ابوظبي قائلا: (لا فائدة للمال اذا لم يسخر لصالح الشعب) .

إن الايمان العميق بالوحدة عن طريق الاتحاد كان متأصلا في قرارة نفسه مذ كان حاكما على العين في بدايات عام 1944 , حيث بادر وبعد عشرين عاما من تقلب الامور ووجهات النظر, بالدعوة الى الاتحاد بين امارات الدولة مؤكدا بقوله: (ان الاتحاد هو طريق القوة وطريق العزة والمنعة والخير المشترك وان الفرقة لا ينتج عنها إلا الضعف.. وان الكيانات الهزيلة لا مكان لها في عالم اليوم.. فتلك هي عبر التاريخ على امتداد عصوره) .

بعد هذه المدة الطويلة والممتدة بين عامي 1946 - 1966 ، سارع القائد الفذ الى القيام فورا بزيارة لاخيه المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم حاكم دبي في 18 فبراير من عام 1968, حيث بحثا اقامة اتحاد بين الامارتين يقوم بالاشراف على الشئون الخارجية والدفاع والامن الداخلي والخدمات الصحية والتعليمية. وهذا البحث العملي في ضرورة انشاء كيان وحدوي ولو بين امارتين في البداية كان له دلالة مؤثرة في تحريك الامارات الاخرى نحو هذا الاتجاه حتى لا تبقى في عزلة عن هذا الشأن الذي يهم كل الامارات المتصالحة في ذلك الوقت وليس الامارتين فحسب .

من هنا لم يتم اغفال البقية من اول لقاء هام وحاسم بين الامارتين الام وعليه اتفقا ايضا على دعوة اصحاب السمو حكام الامارات العربية للاجتماع في دبي لمناقشة توسيع دائرة الاتحاد اكبر قدر ممكن والحث على قيام اتحاد تساعي, يسع الآخرين ولا يقتصر على امارتين .

فكان الاقتراح آنذاك ان يتشكل هذا الاتحاد التساعي من امارة ابوظبي, دبي, الشارقة, رأس الخيمة, عجمان, ام القيوين, الفجيرة, اضافة الى قطر والبحرين.

وهو ما اكد عليه آنذاك الشيخ زايد بقوله: (ان قيام الاتحاد ضرورة قومية, فهو يؤمن الاستقرار والأمن, ثم انه سيكون عونا وسندا لاشقائنا العرب واصدقائنا في العالم) . فمنطلق التفكير لم يكن اقليميا بحتا لان سعة افقه كان اكبر من النظرة الاقليمية الضيقة لانه اراد بهذا الكيان ان يكون عونا لاخوانه العرب دون ان يستثني الاصدقاء في جميع انحاء العالم, انها نظرة عالمية ساعدت الدولة كثيرا لكي تتبوأ مكانة تليق بشأنها الحقيقي ووزنها الحضاري امام الامم الاخرى التي ما فتئت من الاشادة بهذا التفكير الواعي لمتطلبات المستقبل منذ عهد مبكر جدا من عمر الاتحاد.

وبعد هذه الدعوة التساعية لم تتوقف الاجتماعات بين جميع الاطراف في هذا العقد الذي ينتظر زمن وصوله الى صيغة للعهد والالتزام الادبي قبل القانوني أو الدستوري, فاستمرت الاجتماعات تلو الاخرى طوال الاعوام الممتدة من بدايات عام 1968م وحتى مطلع فجر السبعينيات حيث ادلى الشيخ زايد بحديث لصحيفة (الاهرام) المصرية في 7 ابريل 1971م قائلا: (ان روح الجماعة والتعاون الصادق هما اساس نجاح الجهود الاتحادية.. وان الجميع يؤمنون بالهدف الواحد وستنتصر رابطة الاخوة على اية مشكلة) .

لقد ضرب القائد زايد على الوتر الحساس للقلوب التي تريد ان ترتبط حول عظائم الامور وليس صغائرها ، لذا كانت الاخوة هي المقدمة الحقيقية للتغلب على اية مشكلة يمكن ان تواجه قيام الاتحاد.

 

كنا .. واعين و مدركين

 

في العام 1971 ، أين موقعنا في هذه الدولة الحديثة ، و التي أخذت مكانتها سريعا في أحاديث الناس ، و العالم من حولنا .

كنت و جيلي في المرحلة الإعدادية من السلم التعليمي ، أي كنا واعين لهذا الحدث التاريخي ، و خاصة عندما قرر الشيخ زايد منح مكافأة شهرية لجميع المواطنين ، بمبلغ قدره ثلاثة مائة درهم .

قد يستقل البعض هذا المبلغ ، و لكني أقول ، بأن هذا المال كاد يقترب من دخل آبائنا الشهري في ذلك الوقت .

و هو يعني من الناحية الانسانية التخفيف عن كاهل رب الأسرة في الصرف على معيشتها ، و هذا البعد فيه حماية الأسر من الوقوع في براثن الفقر و التخفيف من معاناتها .

المادة بحد ذاتها لم تكن الهدف ، بل الأثر الاجتماعي ، و الرفاه المجتمعي هو الأهم .

نمى إلى " الإنسان " في الشيخ زايد ، بأن الطلبة المقيمين لم ينلهم هذا الخير الممتد من يد بيضاء لم تخش من العوز ، فلم ينتظر ومضة من الوقت ، حتى وصل سمو نفسه إلى بقية الطلاب بغض النظر عن أعراقهم و جنسياتهم و فصائلهم ، فكلهم كتب الله أرزاقهم هنا في هذه الأرض المعطاء .

هذا البعد الإنساني استمر معنا حتى تخرجنا من جامعة " العين " الإمارات الآن ، بل في الجامعة كان الشيخ زايد يرعى فسائلها و يسقيها بنفسه ، لقد وضع مكافأة إضافية لكل طالب ينهي كل فصل دراسي بدرجة الامتياز و بفضل من الله كنت أحد هؤلاء مبلغ ألف و خمسمائة درهم ، إلى أن تخرجت في 15/1/1981، في ثلاث سنوات و نصف ، بسبب الدراسة في الفصول الصيفية ، و في حفل التخرج استلم كل طالب و طالبة خمسين ألف درهم هدية الشيخ زايد للدفعة الأولى من طلبة الجامعة .

 

للخير.. امتداد

 

هذا التوجه عمومية الخير للبشرية كافة هو الذي أسس الشيخ زايد بنيان الدولة عليه منذ كان حجم الموارد محدودة ، كان خير زايد عبر يده البيضاء تقطع الجبال و القفار للوصول إلى المستحق و لو في الأدغال .

من ذلك ، كنا في زيارة رسمية إلى تايلاند و كان من ضمن البرنامج زيارة المفتي هناك الذي يسكن في الغابات و منطقة الأدغال بالقرب حدود فطاني .

عند وصولنا إلى منزله المتواضع ، و بعد الترحيب ، طرح علينا سؤالا واحدا لا غير ، ماذا رأيتم في الطريق إلي ؟ قلنا هيكل مبنى قيد البناء . فأجاب : هذا مبنى مسجد قيد الإنشاء من بياض يد زايد قد سبقكم حيث أنتم ، لقد سبق خير زايد الخير نفسه ، و ها أنتم أبناؤه لا علم لكم بذلك لقد سبقت يمينه يساره في الخير دون علم إحداهما الأخرى .

 

نجم..لم يأفل

 

الزعماء والقادة في تاريخ العالم صناع مواقف وأحداث تذكر على مدار الزمن، وعندما تدلهمّ الأمور، فإن الناس تبحث لها عمن يملك القدرة على فعل الإنقاذ.

إننا أمام شخصية فذة لم يخبُ نجمه بغياب جسده ، بل هو زايد الذي لم يأفل ولم يخفت بريقه، فهو لا يزال الأثر الدال على مسيرتنا المباركة. وذكرى زايد رحمه الله في يوم جلوسه للحكم اليوم بالذات مهمة، لأن العالم العربي يمر بمفترق طرق و بحاجة إلى حِكمة زايد ومواقفه المعروفة سلفاً في ظل هذه الأوضاع التي كانت فيها أقواله وأفعاله ومواقفه دواء ناجعاً لجروح الأمة .

وقع العالم العربي في صحراء من التيه يبحث عن نجم سهيل يرشده إلى طريق الخروج من الضياع، فلو كان زايد بيننا لكان الوضع مختلفاً، فهو رجل الملمات وصاحب المبادرات في الأوقات العصيبة فهو مذ دوت مقولته الشهيرة بأن البترول ليس أغلى من الدم العربي إلى مواقفه المعروفة أثناء غزو العراق للكويت، وحتى البوسنة والهرسك لم تكن عن ناظريه ببعيد، فمن للأمة العربية والإسلامية اليوم وهي تخوض معركة الانتصار على الفوضى التي حلت باسم «الربيع» وهو لا يقر لهم بذاك.

تمر علينا هذه الذكرى ، والعالم العربي على وجه الخصوص بأمسِّ الحاجة إلى قائد مثله ، لأنه كان خيراً عميماً على العالم أجمع، فضلاً عن الأقربين.

لم تكن هذه الذكرى يوماً حدثاً عابراً، بل كانت تاريخاً لصناعة الرجال الذين يؤدون أدواراً محسوسة وملموسة، تتلمسها الأجيال تلو الأخرى. لم يرحل زايد هكذا، بل ترك فعاله حية تنسي الناس موت الجسد فتظل ذكراه منارات وقبسات من نور ترشد السائرين على نهجه، نحو إنجاز أكبر وعطاء أجود.

و لم يغادر زايد هذه الحياة الفانية ، إلا بعد أن صنع دولة عصرية يفتخر العالم بإنجازاته التي وصفها البعض بالإعجاز، وفي زمن قياسي إذا ما قورنت بتاريخ بناء الحضارات التي أخذت من أعمارها مئات، بل وآلاف السنين.

زايد ببساطة رجل الصحراء استطاع أن يصنع دولة حضارية تتحدث عنها الركبان على مدى الأزمان، ببنائه دولة اتحادية غيرت واقعاً من التفرقة والتشرذم، إلى وحدة شعبية قاد زايد الناس من قلوبهم وليس من رقابهم.

طوال حياته العامرة ورث زايد ما هو أغلى من المال وكل الثروات ألا وهو غرس المحبة في القلوب والقناعات في العقول، ولم يغادر دنيانا إلا وقد ترك من حوله كوكبة من الرجال الذين عاهدوا الله على مواصلة سيرة زايد في شعبه والبناء عليها للأفضل والأقوم

فالإمارات اليوم بفضل نبع زايد الصافي مستمرة في جني ثمار ذلك الغراس في كل المجالات وعلى كل المستويات، فلا يمر يوم إلا والجوائز العالمية تتقاطر عليها من كل حدب وصوب، سواء على مستوى السعادة والرفاهية أو الحكومة الرشيدة والذكية.

لأن زرع زايد قد نما، فلا مجال إلا أن يشق الخير مجراه، ويضع خلفاء زايد المؤتمنون على شعبه إرثه نصب أعينهم حتى تتواصل المسيرة وتحقق الأهداف المرجوة وتنفذ الاستراتيجيات طويلة المدى .

ها نحن اليوم نستظل بشجرة الاتحاد الوارفة، نجني خلالها ما سقي بماء الأولين من جهودهم وعرق جبينهم، وتركوا للاحقين بهذا الركب المبارك فرصة الوصول إلى المراتب الأولى في هذه المسيرة المتواصلة بكل اقتدار من أجل خدمة هذا الشعب الكريم والحفاظ على رفاهيته وسعادته وهو الهدف الأسمى لكل ما تقوم به حكومة الإمارات من خلال مشاريعها التنموية المستدامة.

 

رائد .. الأنسنة

 

نذهب إلى البوسنة والهرسك، وقد تشرفت بصحبة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في زيارة تفقدية لقواتنا الباسلة والمرابطة هناك في مهمة لحفظ السلام وفك الاشتباك بين الجيوش المتحاربة من الصرب والكروات والبوسنة.

لقد وضع زايد، رحمه الله، لهذه المشاركة قاعدة إنسانية فريدة وغير مسبوقة في التعامل عند اندلاع الحروب والأزمات، خلاصتها أن هؤلاء المتقاتلين بغض النظر عن أديانهم بشر من خلق الله، فلا فرق بينهم، وأساس التعامل معهم ليس على قدر العداء بينهم، بل على عامل الإنسانية التي تجمعهم، وهو مصداق ما ورد في الأثر «الخلق كلهم عيال الله».

لو اختلف البشر كلهم في الدين واللون والعرق، فلا تجمعهم غير الإنسانية، وهي العامل الموحد إذا ما فرقتهم المختلفات، فهذا المشترك الإنساني إذا فُقِد جاءت الصراعات لتفجر الإثنيات والعرقيات.. إلخ.

و يروي الشيخ سيف بن زايد عن والده رحمه الله هذه الحادثة ، فيقول : اتصل بي قائد القوات في البوسنة يوما مستفسرا عن أمر حدث لديهم لأول مرة و يريد فيه رأيا . قال : جاءنا جندي صربي مصاب في إحدى المعارك مع البوسنيين ، إلى المستشفى الميداني للمسلمين لتلقي العلاج ، فماذا نفعل به ، نريد قرارا بذلك ، فقد يتكرر الامر ؟

يقول الشيخ سيف : رفعت الأمر إلى الوالد ، فقال لي : ارجع إلى القائد فقل له يقول لك الشيخ زايد: أليس هذا الصربي إنسان ؟! فقد وصله القرار .

سافر أحد أنجال الشيخ زايد إلى دولة غير مسلمة لقضاء إجازته هناك ، فلما عاد إلى أرض الوطن ، ناداه زايد فسأله ماذا فعلت هناك ، قال : لا شيء . قال والده : ألم تساعد أحد ؟ قال : لا . قال الشيخ زايد : لماذا ؟ قال : لأنهم غير مسلمين!

قال الشيخ زايد : هل المساعدة فقط للمسلمين ، و غيرهم ليسوا بشر ؟!

المبدأ الأول عنده أن الرجال هم من يصنعون المال وليس العكس، والمبدأ الثاني أن المال لم يكن في قلبه بل في يديه، وهو يصدق فيه دعاء المصطفى «اللهم اجعل الدنيا في يدي ولا تجعلها في قلبي».

أما المبدأ الثالث فهو في عدم احتكاره للمال لا لنفسه ولا لدولته، فقد وجد للجار القريب والبعيد حقاً فيه، وللشقيق والصديق وحتى عابر الطريق وكل محتاج ضاقت عليه سبل الحياة له في مال زايد نصيب غير منقوص.

محصلة هذه الفلسفة العملية في حياته، حيث امتد مدى إنفاقه كافة أصقاع الأرض، فمنذ تأسيس الدولة إلى ساعة رحيله، أنفق زايد الخير قرابة 100 مليار درهم كعطاءات إنسانية تفيض بالخير على المحتاجين.

وقد ساهم هذا العطاء المتواصل للإنسان أينما كان في تبوؤ الدولة المركز الأول عالمياً، ولمدة خمس سنوات متتاليات، في تقديم المساعدات الخارجية وبمساهمة إنسانية قاربت 220 مليار درهم.

ويكفي شهادة «جيم ماتيس» أثناء حضوره المجلس الرمضاني لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد، عندما قال بأن: مساعدتكم الإنسانية استفادت منها دول كثيرة.. منها الولايات المتحدة عندما ضربها الإعصار.. نحن لم ننس لكم ذلك.

 

زايد..الإنسان

 

إننا أمام زايد الإنسان الذي خلق الله فيه الخير جبلة وفطرة، بعيداً عن التكلف والتصنع لأنه فيه سجية.

لقد أمضى زايد رحمه الله حياته كلها منذ توليه مسؤولية الحكم في سباق مع الخير، فأعماله كانت تسبق أقواله بشهادة الآخرين لأنه كان لا يحب البوح والإعلان عمّا يقدمه من عطاءات خيرية وإنسانية من أجل مراعاة مشاعر من امتدت لهم يد العون والمساعدة. بل إن نظرة الشيخ زايد رحمه الله كانت أبعد من ذلك بكثير فقد كان يعامل البشرية وفق مبدأ العائلة الواحدة والجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو من عوز تداعت سائر الأعضاء لسد هذا العجز. ولو أردنا رسم خريطة لعطاءات زايد منذ قيام الاتحاد إلى ساعة مفارقته الحياة، لعجزت الخريطة عن تحمل هذا العبء، وذلك لصعوبة الحصر والعد فيما هو معلن فمن يعلم بما لم يعلم غير الله سبحانه. وحسبنا أن نكتفي منها بلمحات سريعة ومقتطفات لملامح الخير في سيرته، ونبدأ في العام الذي تمّ الإعلان فيه عن قيام كيان الدولة الاتحادية حيث تبرع الشيخ زايد رحمه الله بمبلغ 50 ألف دولار لدعم أنشطة منظمة اليونيسيف في برامجها الهادفة لمساعدة الطفولة التي يدرك زايد معانيها الإنسانية في بداية التكوين ومدى الحاجة إلى حسن رعايتها حتى تصل إلى مراحل النضج والبلوغ، ومن ثم المساهمة في الحياة بإيجابية.

و كانت فلسطين في مقدمة اهتماماته ففي 17 يونيو من عام 1971 أعلن الشيخ زايد عن تبرعه بمبلغ 20 ألف دينار بحريني للشعب الفلسطيني

ولا زالت الأيادي البيضاء لحملة الأمانة من بعد زايد ممتدة بخيرها إلى هذا الشعب ، حيث أمر صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رحمه الله بمساعدة وقدرها 25 مليون دولار لمواصلة نهج زايد الخير في دعم هذا الشعب الذي يبحث عن يوم ميلاد دولته.

لقد أدرك الشيخ زايد رحمه الله منذ عقود أهمية الماء ودوره ولمعرفته بأهمية هذا المصدر لحياة شعبه وتطوره، فإنه لم ينس يوماً حاجة الآخرين من الأشقاء والإخوة في مواقع الحاجة الملحة إلى قطرة الماء الزلال، فمن هذا المنطلق تبرع الشيخ زايد في 15 مارس 1972 بمبلغ 3 ملايين دولار لحل مشكلة العطش في السودان. وعلى هذا الأساس بنى صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، مبادرته في «سقيا الإمارات» امتداداً لخيرية زايد غير المنقطعة مع توالي الأجيال. لقد تجاوزت قيمة تبرعات المبادرة هدفها، بجمع أكثر من 180 مليون درهم خلال 18 يوماً، فقد أعلن سموه أيضاً عن تبرعه الشخصي، لتوفير المياه لمليون إنسان حول العالم، نيابة عن جميع مواطني الدولة ليصل العدد الإجمالي للمستفيدين من الحملة إلى سبعة ملايين شخص. وعندما نقوم بربط جزء يسير مما قام به زايد رحمه الله في عهده وما تمت مواصلته في عهد أنجاله الأمناء على نهجه ومسيرته، نصل إلى نتيجة مفادها أن خيرية وإنسانية هذه الدولة لا تنفصل البتة عن إنسانية بانيها الأول، فإنسانية زايد القائد هي التي تقف بنا أمام العالم شاهدة على أن هذه الدولة شعارها إنساني تهدف لنصرة الإنسان أينما كان، فلا الزمان ولا المكان عائقان، لأنه بمجرد وجود الإنسان المحتاج البعيد عن حمولات الجنس أو الدين أو العرق، فهو هدف نبيل تسعى القيادة الرشيدة إلى سد حاجته بالخير والنماء المستدام.

 

دولة..الإنسان

 

 

لطالما ركزت الإمارات في سياستها الخارجية على البعد الإنساني، فهي تمد يد العون للجميع دون تمييز على أي اعتبار، ديني مذهبي، عرقي، أو حتى لغوي. في ثمانينيات القرن الماضي، أحدثت الجالية الهندية بعض القلاقل، بظهورهم في مسيرات غير معهودة على رتم السلم المجتمعي بالدولة التي تأسست على منظومة من الحياة الآمنة لكل إنسان يهنأ برغد العيش على هذه الأرض المعطاءة، التي تتعامل بقيم إنسانية رفيعة مع العالم كله. فاتخذت الحكومة، آنذاك، قراراً بإعادة هذه الجالية إلى بلادها، ولكن قبل تنفيذ القرار، قامت أنديرا غاندي بزيارة للإمارات ولقاء المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان للإطلاع على خلفية القرار، والتشاور حول حل هذه الإشكالية بين البلدين اللذين يتمتعان، منذ زمن بعيد، بعلاقات مميزة.

وقامت غاندي بشرح الأوضاع الإنسانية لهؤلاء في بلدانهم، وكيف بأن انقطاعهم عن العمل سيؤثر على ملايين الأسر في الهند، فتحركت القيم الإنسانية الرفيعة لدى زايد الخير، فأمر بإيقاف تنفيذ القرار، لقناعته الراسخة بعدم الإضرار بالكل لجريرة البعض. والدافع الجوهري هو في نظرة زايد بأن هؤلاء المقيمين ساقهم الله إلى الإمارات لأن أرزاقهم كتبت وقدرت أن تكون في هذه الدولة. هذا هو العمود الفقري لإنسانية الإمارات الراسخة في باني هذا الصرح الاتحادي المتين، وبعد رحيل زايد، رحمه الله، واصل الأنجال الأخيار المسيرة.

 

رمز..التسامح

 

 

لم ينته عام زايد حتى دخلت الإمارات عامها الجديد في امتداد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، عبر صفاته ومزاياه. فالتسامح بالنسبة له لم يكن حديثاً مسترسلاً ولا ثرثرة في فراغ الفكر، بل سلوكاً ملموساً وعملاً رفيع المستوى في الأثر. هرول إليه المقربون يوما لإعلامه عن رجل قيد الحجز وقد أساء إلى شخصه، وهو ما يُسمى في القانون بـ «ذات الحاكم أو الأمير أو الملك أو الرئيس مقدسة»، فلم يسرع في الحكم على «المتهم» فطلب منهم وبإصرار أن يذكروا له بالضبط ماذا قال عنه وهم يترددون في البوح به حتى غلب إلحاح زايد ترددهم، فقالوا له إنه يقول عنك كذا.. فضحك حتى بدت نواجذه فرد عليهم: كبِّروا عقولكم وآتوني بدفتر الشيكات. فكتب لـ «المتهم» المحبوس مبلغا من المال، فقال لبطانته: اذهبوا بهذا المال إلى ذاك الرجل فقولوا له" زايد يسلم عليك ويهديك هذا المال مقابل إساءتك إليه، وأمر بإطلاق سراحك فوراً، فغرق الرجل في بحر سماحة زايد الذي أعجز مساعديه، وأدهش فعله أقرب الناس إليه

هذا هو الإنسان في زايد الذي تعامل بروح القانون، وليس بحرفية بنصوصه .

 

التراث..المشرق

 

رحل المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد عن دنيانا ولكنه لم يغب عن حاضرنا ومستقبلنا لحظة، لأنه لم يبن فقط ليومه بل لقابل الأيام.

وما نعيشه اليوم من تقدم وتطور جزء من قواعد وفلسفة تفكيره الفذ وهو ما تعاهد عليه أبناؤه الكرام من بعده.

فمن ضمن الغزير من لقاءاته الإعلامية، كان طرح السؤال عن المثل الأعلى في حياته، كان رده الحاسم و بلا منازع الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما الثانية والدته التي زرعت فيه كل ثمار التربية الكريمة. والثالثة المتنبي الشاعر الذي أثر في الذوق الرفيع لأشعاره التي ضربت الركبان الفضائية والسماوات المفتوحة. ومن باب حبه الجم للمصطفى عليه الصلاة والسلام، كان اهتمامه بكل ما يمت إليه بصلة، ويروي طرفاً من ذلك مستشاره الخاص في محاضرة ألقاها سنة 2000 بمركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، حيث ذكر أنه "في إحدى الليالي استدعيت على عجل إلى مجلس صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ زايد، وحين حضرت خاطبني : لقد حضر إلى مجلسنا أحد الأشخاص مدعيّاً بأن لديه رسالة قديمة هي ذاتها الرسالة الأصلية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ملك الروم في زمنه، ونريد منك التأكد بالوسائل العلمية المناسبة من صحة هذا الادعاء". يقول المستشار ، وهنا كان عليّ التثبت من تاريخ الرسالة والرق للتعامل مع محتوياتها من الناحية التاريخية، وكانت متسقة مع ما ذكرتْه كتب التاريخ والسير بل إن منطوق الرسالة معروف جدّاً حتى لدى العامة.

وبعد التثبت من المنطوق النصي للرسالة بقي التثبت المختبري، فاتجهت إلى أرقى المراكز العلمية في أوروبا وتعاملت معها بهدف تحديد تاريخها، وكانت المفاجأة الكبرى أن المختصين أخبروني أن تاريخ هذه الوثيقة يقارب 1400 سنة تقريباً، وكان ذلك موافقاً بشكل عجيب وشاهداً على انتسابها لعهد النبي صلى الله عليه وسلم. يضيف المستشار : فحملت هذه النتيجة إلى الشيخ زايد وأخبرته بأن هذه الرسالة يرجح بشكل قوي جدّاً أن تكون صحيحة لتوافق تاريخ كتابتها على الأرجح مع عهد حياة النبي صلى الله عليه وسلم. وعرفت حينها أن مصدر هذه الرسالة شخص من المحيط العائلي للملك فيصل الثاني ملك العراق في العهد الهاشمي، ولذلك عوض الشيخ زايد لصاحب الرسالة العوض الذي كان يريده عنها، واحتفظ هو بها، حتى زاره الملك حسين فأهداها سموه إليه، كرماً وإيثاراً، على اعتبار أن الرسالة ذات صلة بتراث العائلة الهاشمية. وكان منطلق الشيخ زايد رحمه الله، لهذا الاهتمام الخاص بقدوته الأولى، نابعاً من المحبة الخالصة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم وتبركاً وتشرفاً بكل ما له علاقة به. هذا زايد طيَّب الله ثراه في تعلقه بإشراقة التراث الذي يبنى عليه حاضر الأمة ومستقبلها، وهو الذي يلهج لسانه دائماً بأقوال مأثورة تربط ثراء هذا التراث بقوة الحاضر والمستقبل، فهو القائل: من ليس له ماض لا حاضر له ولا مستقبل. هذا الفهم السليم لتراث الآباء والأجداد وبناة الحضارات، فزايد الغائب الحاضر على رأسهم مدرسة مستقلة تستقي منها الأجيال زادها الحقيقي من أجل استكمال المسيرة .

 

صناعة..وطن

 

 

إن كان زايد قد رحل عن دنيانا إلى رحمة الله، فإن صناعته لهذا الوطن من الباقيات الصالحات بعد وفاته، ولم يرحل حتى ترك أغلى وطن لا يقدر بثمن ، نحن مدينون بالحفاظ عليه وفاء لهذا العظيم الذي فارقنا والأمة قاطبة في أشد ساعات الحاجة إليه . ، وما يدور في العالم من حولنا خير شاهد على ذلك.

إننا نقف اليوم أمام ذكرى رجل منذ وفاته لم نشعر بفراقه لأن رائحته الزكية تفوح في جميع أرجاء الوطن المعطاء من عطائه. لماذا الحديث عن الوطن بعد رحيل بانيه وراعيه حق رعايته ، بكل ما أوتي من قوة الحكمة التي أخذت من زهرة حياته ليضيف إلى الآخرين من قدراته النفسية تجاه كل وطن عربي أصيب في أمنه واستقراره وزايد حينها كان وما زال حكيم العرب ورشيد ذلك الزمان وكل زمان.

نستدعي هذا التاريخ الوفير بعطائه ، ونسمع صوت الشيخ زايد، طيَّب الله ثراه، وهو يعرِّف هذا الوطن بوجدانه، فقال بكل وضوح «إن الوطن هو الروح والفخار والحياة، وإنه لا حياة من غير وطن».

لنا أن نتأمل قليلاً ونعتبر بهذه المقولة الجوهرة، عندما نتابع شأن أكثر من 60 مليون لاجئ يهيمون على وجوههم حول العالم بحثاً عن «وطن» أي وطن يعيد إليهم الحياة الحقة بعد أن فقدوها في أوطانهم السابقة، ويا ليت الأمر يقف عند هذا الرقم ليوم واحد فقط لا غير، بل الإشكالية الأكبر، أن المعدل اليومي للهجرة والنزوح في العالم في عام 2014 بلغ 42,5 ألف شخص وهذا المؤشر الرقمي ارتفع خلال السنوات الأربع الأخيرة أربع مرات إلى أن وصل إلى قرابة 170 ألف شخص في اليوم يبحثون عن شيء شبيه بالوطن حتى يعودوا أناساً طبيعيين لكي يعيشوا آمنين في أوطان ترفع عنهم العنت وشظف العيش! فهلّا أدركنا حكمة حكيم العرب في شعوره بالوطن الحقيقي للإنسان كائناً من كان. ولم يقف زايد عند هذا الحد لينبّه إلى ما هو أعمق من ذلك مما يلامس المعتقد عندما قال: «..وحب الوطن من الإيمان، وإن الأسلاف والأجداد حافظوا على وطننا رغم الظروف الصعبة والحياة القاسية التي مرت عليهم، وعلى أبناء هذا الوطن أن يتفانوا في الحفاظ عليه خاصة بعد أن منّ الله علينا بالنعمة». ترى زايد ألهمه الله هذه المقولة حتى نرى اليوم كيف أن بعض الأوطان تستباح وحرماتها تُداس بالأقدام وكل ما يخطر على البال من الوسائل التي تستخدم في الهدم والإذلال والمهانة وهدر الكرامات، بسبب أفكار خرجت من ظلمات الكهوف و شطط الأفهام السقيمة .

وها هو الشيخ زايد ، قد تنبه لذلك قبل أن تصل الأمور إلى هذا الحال حيث حذرنا من هذا المصير منذ عقود، فهو القائل لنا «احذروا يا أبنائي من التيارات المسمومة التي تأتيكم من الخارج ولا تقربوها ولا تعملوا بها.. اعملوا ما ترونه مفيداً وصالحاً للوطن من أجل تحقيق المزيد من النمو والازدهار والتقدم والنهضة للمواطنين والمقيمين». وما جرى منذ 2011 في العالم العربي أليس حصاداً مراً لتلك التيارات المسمومة التي جرفت الأوطان إلى واد سحيق من انعدام الأمن والأمان والاستقرار؟

اليست وقاية وحماية الوطن هي ما حدا بزايد لقول ذلك، وهو أكثر دلالة على رؤية ثاقبة وحكمة بالغة لمجريات الأمور من حولنا. ونختم بمقولته الذائعة الصيت عندما قال: «إن أبناء دولة الإمارات رجال نرحب بالاستماع إلى رأيهم، ونسعى إليهم دائماً ونحملهم المسؤولية الصغيرة والكبيرة، لأننا كلنا جنود لهذا الوطن، والذي لا يعد نفسه جندياً لأجل الوطن ليس منا "

 

.