الأحد 22 ديسمبر 2024

دكتور عبدالله العوضي يكتب: الإمارات .. و الترقي الحضاري

باور بريس

 

تمهيد : الحضارة الإنسانية

 

تشكِّل الحضارة الإنسانية منذ نشأتها وحتى الآن نسيجاً متعدد الألوان، كلّ خيط فيه - مع احتفاظه بكينونته الخاصة - يعطي بتلاحمه مع بقية الخيوط لهذا النسيج متانته وشكله النهائي، مثله في ذلك كمثل لوحة فسيفساء كل جزء منها مستقل بذاته، ولكن اصطفاف هذه الأجزاء وفق قوانين بنائها يعطي اللوحة النهائية رونقها الخاص الذي يستمد جماليته من تفاعل هذه العناصر مع بعضها البعض.
فالحضارة هي الدرجة العليا من تباين الوجود الإنساني ، و هي قادرة على إلغاء التناقضات ما بين أجناس البشر ذات الاختلاف العرقي  و الثقافي .
و عند " توينبي " ، الحضارة هي الشكل الأكثر أصالة و واقعية للمجتمع البشري .
و لدى  " ديورانت " ، الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من انتاجه الثقافي ، و هي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب و القلق لأنه إذا ما أمن الإنسان من الخوف ، تحررت في نفسه دوافع التطلع و عوامل الإبداع و الإنشاء ، و بعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة وازدهارها .

الحضارة حوار و تشارك أم صراع ؟!

لا بد لنا من السعي إلى تحييد الحضارات من أجل إبراز البعد الإنساني في مفاصلها ، و إلا سوف تطغى فكرة الصراع و النفوذ للأقوى كما روج له " هنتنجتون " في كتابه " صراع الحضارات " ، و فوكوياما في. كتابه " نهاية التاريخ " حيث رسخ فكرة أن الحضارة الأميركية هي آخر الحضارات ، دون أن تقبل لها شركاء و لو في الثلث .
بالمقابل هناك من يرى بأن فكرة الصراع أو الحوار ، لا وجود لها ، لأن هناك حضارة إنسانية واحدة صبت فيها شعوب و أمم و أقاليم الدنيا على طول التاريخ أفضل ما توصلت له من رقي و تقدم .
من هنا نستطيع القول بأن الحضارة هي أنفع و أرفع ما وضعته  ثقافات الشعوب و الأمم و الأقاليم في المجتمع العالمي للثقافات المتنوعة ، و الذي هو محيط الحضارة الإنسانية .
هذا المحيط يشكل مجمع البحار و الأنهار التي تصب فيه كذلك مياه الأمطار ، فكلما فاض عاد الفائض إلى المحيط  مجددا ، فالحضارة الإنسانية ليست حكرا على أحد لأنها منافع مشتركة و ليست مدافع منطلقة ضد الآخر مهما كان موقعه في السلم الحضاري فهذا المحيط يحوي الجميع بدون الحاجة إلى سماع أصوات فرقعات المدافع .
و الذي حدث على طول التاريخ ، أن ماحققته المجتمعات المتعددة من ثقافات متنوعة انتقل بالاختيار المفتوح و بالطلب الحر - عندما بان نفعه و تأكدت قيمته - إلى الأقاليم المحيطة بموطنه و هناك تفاعل مع ما وجد ، ثم راح ما تجمع في الأقاليم ينتشر - بثبوت نفعه و صلاحيته - إلى أفق أوسع و أبعد ، و مرة ثانية فعل و تفاعل ، ثم تحول مجمع الثقافات إلى محيط حضاري لا يحتاج إلى إلحاح أو إلى سلاح ، لأن شراكة الجميع فيه ، و حاجة الكل إليه ، تجعله ثروة بالمشاع بينهم و ادخارا لطموحاتهم عندما تحركهم هممهم .

موقع الإمارات الحضاري

عندما يكون مدار الحديث عن المنظومة الحضارية في كافة الأمم و الشعوب منذ الخليقة ، أي قبل أكثر من مليوني عام ، فلا بد أن تكون الإمارات جزءا منها .
و لكن علماء الحضارة الإنسانية من أمثال ابن خلدون  و ديورنت و زوجته  و اشبنغلر و توينبي يكادون يجمعون على أن أصل الحضارة الإنسانية بدأت في بلاد الرافدين ، أي في حقبة السومريين عندما تم اكتشاف الكتابة ، فكانت نقطة البداية في نشأة الحضارة الإنسانية قبل 5500 عام .
بعد النشأة الإنسانية للإمارات ، فإن لها وجودا مؤصلا  في حضارة الجزيرة العربية التي وصلت في عهد الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى مساحة تقدر بثمانية ملايين كيلومتر مربع من إجمالي مساحة الكرة الأرضية ، أي في غضون ثلاثة عقود من ظهور الإسلام إلى الوجود ، و لم يمض قرن على ذلك حتى وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس فردوس الكون آنذاك على يد عبد الرحمن الداخل الملقب ب  " صقر قريش "

زايد .. رؤية حضارية :

الإمارات شرعت في التعامل مع البعد الحضاري ، قبل الوصول إلى مرحلة الإتحاد بفترة زمنية طويلة .
و خاصة ، عندما تولى  الشيخ زايد زمام الحكم في العين من الفترة 1948 - 1968 . 
كان أكبر تحدي قد واجهه ندرة الموارد المائية ، و التي كان بحاجة إلى المزيد من حفر الآبار الارتوازية و الأفلاج و الشرائع لإيصال المياه إلى المزارع و الحدائق ، و قد حالفه النجاح رغم مثبطات الخبراء الدوليين المارين على تلك المناطق القاحلة ، فكان زايد يدعوهم للعودة بعد سنوات لكي يروا المعجزة الحضارية التي حولت مدينة العين إلى واحات غناء و جنان خضراء ، و قد شارك زايد عمليا بيديه حتى نبعت الماء من بينها  ، لأنه كان مدركا بأن الماء منبع الحضارات ، و بناء عليه أصدر قانونه الخاص الذي يمنع التجار من بيع المياه و احتكاره . 
و هكذا تبينت فلسفة زايد التي تركز على أن الإنسان هو العمود الفقري و هو الأساس الذي يقوم عليه بناء أي حضارة إنسانية ، و هو محور كل نهضة حقيقية و مستدامة .
و بتغلب زايد على هذا التحدي يتحقق فيه قول  " توينبي " : " إن التحدي هو الذي يخلق رجل الأحداث ، و القادة لا يزدهرون في أسهل الظروف ، و إنما - على العكس - يزدهرون في الظروف التي تتحداهم أشد التحدي ، و كلما ازداد التحدي ، صاروا أكثر عظمة ، و الانتصار على الصعاب و العقبات تؤهل لرجال الأحداث تبوأ الزعامة  ، ذلك أن الشعوب تعجب بالأعمال قبل الرجال .. و إذا أعجبت بالأعمال فإنها سرعان ما تمنح الرجال الثقة و تعطيهم زمام القيادة "
و بعد مضي خمس سنوات على حكمه للعين ، و في أول رحلة خارجية له في العام 1953 إلى بريطانيا و فرنسا تأثر بالنهضة الحضارية بعقله و روحه المنفتحة على تجارب الآخرين و أفكارهم ، و أقام على أرض الوطن نهضة تضاهي تلك التي وجدها هناك .
و بما أن الدولة استقبلت اكسبو دبي 2020 ، هذا الملتقى الحضاري العالمي ، فحري بنا أن نؤكد على استمرار نظرة زايد نحو هذا الأفق المستقبلي ، عندما شاركت أبوظبي في اكسبو 1970 اليابان بمدينة أوساكا ، و قد شكل وفدا رفيع المستوى برئاسة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد ولي عهد أبوظبي آنذاك .
هذا الإدراك المبكر للتواجد في هذا المحفل العالمي ، دلالة فارقة لما ستكون عليه الدولة بعد الوحدة و الإتحاد .

منبع العلم بعد ماء العين :

في العام الدراسي 1976/1977 ، تم افتتاح " جامعة العين " النبع الآخر لحضارة الإمارات في بواكير اتحادها ، و أذكر يومها كنت في إدارة البعثات بوزارة التربية و التعليم ، من أجل اتخاذ قرار الابتعاث إما إلى مصر أو الكويت ، و  لكن قرار  افتتاح " جامعة العين " هو المصير الجميل الذي لجأت إليه بلا تردد ، بل كانت بشارة في الوقت المناسب .
منذ السنة الجامعية الأولى حرص الشيخ زايد على إرسال الطلبة و الطالبات ، في عطلة الصيف إلى شتى دول العالم شرقا و غربا بهدف الإطلاع على المنجزات الحضارية في المجتمعات المتقدمة .
و كنت في المجموعة التي سافرت إلى هولندا و بلجيكا ، و كان زيارة الجامعات على رأس الأولويات في برنامج الرحلة العلمية .
و في الجامعة التي زرناها دخلنا مصنع صناعة السيارات الكهربائية التي كانت من مشاريع الطلبة آنذاك ، و نتاجها اليوم شاهد أمام بيوتنا في مختلف إمارات الدولة ، فكر اخترق نفق الزمان منذ خمسين عام ليتواصل عطاؤه لقابل الأزمان .

رؤية راشد .. عضيد زايد :

أستهل بما سطر الخلف عن السلف و الولد عن والده ، صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم : 
" من يتابع ما تحقق على أرض دبي خلال الفترة الماضية من ازدهار و تنمية يدرك دور للمغفور له الوالد الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم في تلك الإنجازات ، فرغم إمكانياته الضئيلة و موارده اليسيرة ، إلا أنه استطاع برؤيته الثاقبة و فكره الوثاب و قدراته و طموحاته التي لا حدود لها أن يقطع مسافات بعيدة و يستشرف للمستقبل الذي كان يحلم به للوطن و المواطنين "

الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم باني حضارة دبي التي وضع عمودها الأساسي الشيخ سعيد عبر منظومة واحدة عنوانها الرئيسي " التعايش " و قد مضى على هذا المنوال قرابة الخمسين عام من قيادته لدبي . 
يعتبر الشيخ سعيد  أول حاكم في منطقة الخليج استخدم الطائرة المائية أو القوارب الطائرة في أسفاره ، و ذلك بعد أن وقع الشيخ سعيد في عام 1933 اتفاقية مدتها 6 سنوات مع القوات الجوية الملكية لتأسيس محطة تزود بالوقود و السماح لتلك الطائرات أن تحل على خور دبي ، حيث حلت أول طائرة في يناير 1937 ، لتبدأ بعد ذلك الرحلات التجارية إلى دبي في أكتوبر من العام ذاته ، و يمكن أن نعتبر هذا أول مطار دولي مائي تأسس في دبي .
و كان ذلك تلبية لدعوة كريمة تلقاها سموه من حاكم البحرين لحضور افتتاح عرض أول فيلم سينمائي في منطقة الخليج .
هذا التواصل المبكر مع منتجات الحضارة الغربية آنذاك لهي دلالة قاطعة على ما وصلت إليه دبي اليوم ، و بما أنه لم يكن هناك مطار ، فقد استقل الشيخ سعيد طائرته انطلاقا من خور دبي ، هذا ما أشارت إليه الوثائق البريطانية المحفوظة في مكتباتها الثرية .

خور دبي .. الناطق بلسان الحضارة :

تاريخ دبي الحضاري جزء لصيق بتاريخ الإمارات ، فخور دبي بالذات له تاريخ لا يقل عن خمسة آلاف عام ، من هنا يأتي أحد أسماء دبي القديمة ب " الوصل " ، فهي حلقة الوصل بالعالم منذ ذاك العمق التاريخي ، و تركيبتها السكانية لحقت بذلك الوضع من التعايش وفق منظور السلم الاجتماعي .
نتعمق قليلا في فكر راشد الحضاري ، من هذا الشريان الذي يربط قارات العالم في تجارة إعادة التصدير  ، و يبشرنا صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد بـ"تويتر":
لأول مرة تجارتنا الخارجية غير النفطية تتجاوز حاجز التريليون درهم خلال نصف عام فقط.. لتصل لتريليون و58 مليار درهم بنمو 17 في المئة عن نصف العام السابق.. ولتثبت دولة الإمارات للعالم عودة تعافي التجارة الدولية بعد الجائحة الأصعب التي مرت بالبشرية .
نمونا الاقتصادي تصاعدي راسخ، وبيئة التجارة لدينا هي الأفضل، وبنيتنا التحتية لا تجاريها أي دولة، ومنهجنا الاقتصادي ثابت وعادل ومنفتح على الجميع.. ومتفائلين بعام اقتصادي جديد مليء بالعمل والإنجاز والمشاريع الفريدة  .
و قد تحقق بهذه البشارة ما صرح به سمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد بـ"تويتر" في العام 2021  بأن : نمو قوي ومبشّر لتجارة دبي الخارجية وصل إلى 31% بإجمالي 722 مليار درهم في النصف الأول من 2021.. نمضي بثقة وبروابط قوية مع العالم في تحقيق رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد للوصول بتجارة دبي إلى تريليوني درهم خلال خمس سنوات وإضافة 200 مدينة جديدة لشبكة شركائنا التجاريين . 
هذا الشريان الحيوي قسم جغرافيا إمارة دبي إلى بر دبي و بر ديرة ، و كانت وسيلة التواصل بين البرين عن طريق " العبرة" ، أو السباحة .
إلا أن فكرة الوصل لدى الشيخ راشد كان أعمق من عمق الخور ذاته ، فقد شرع في إنشاء أول جسر بين البرين في أوائل ستينيات القرن العشرين ، حيث ربط البرين بجسر آل مكتوم الذي كان سببا مباشرا لتغيير وجه الحياة في دبي ككل ، و كان أول جسر في الإمارة و الدولة كذلك يفرض رسم رمزي و كان قدره 25 فلس على المركبة ، إلى أن استكمل تكاليفه فعاد العبور بالمجان  ، و في ذاك رؤية اقتصادية راقية تنم عن فكر تنموي سبق زمانه بعقود . 
من يصدق بأنه على مسافة عدة كيلومترات ، و على امتداد الخور ، نرى قرابة 2000 سفينة تصطف في نوتة موسيقية لحنها الوحيد الإنسانية ، أكثر من نصف مليار إنسان بانتظار  هذه البضائع للوصول إليها .
و على ضفافها سيمفونية دينية تعزف لتعبر عن روح الحضارة ، الف باؤها جامع لأهل السنة  ، و بجواره جامع آخر لإخواننا الشيعة محاطة بمآتمهم و إدارات أوقافهم .
و من خلفهما معبد هندوسي تقام شعائرها في وضح النهار و بالليل أمام الناظرين و من بعدها بقليل كنيسة بروتستانتية بنيت مع بناء دبي .
و لقد دعوت أسرة استرالية صديقة  إلى جولة ترفيهية في فصل الشتاء ، و كانت أستراليا تشكو من ضغط التطرف و الإرهاب آنذاك ، فكنت لهم مرشدا سياحا ، فنبهتهم على كل دور العبادة الدينية لكل الطوائف في هذه المساحة الضيقة و لم يشهد هذا المكان إرهابا و لا تطرفا و لا عنفا ، فلماذا أنتم تعانون ؟!
و أثناء جولتنا تذكر جد الأسرة الضيف ، تذكر في التو أنه مر في هذا الخور في الخمسينيات من القرن الماضي عندما كان جنديا في البحرية الأميركية . 
و في منطقة الراس تطل على هذا الخور أس الحضارة الإنسانية في جميع مراحلها ، أول مكتبة عامة في إمارة دبي و أقدمها ، و التي تأسست في العام 1962م ، و كانت محرابنا العلمي و الثقافي آنذاك و لا زالت فروعا المنتشرة في معظم مناطق دبي تزود عقولنا بكل نتاج فكر العالم .
و قد أرفد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، صرحا معاصرا لمكتبته المليونية على امتداد الخور مرصعا بمداد الفكر البشري و عصارته من مختلف صنوف المعرفة ، ليضيف إلى بقية معالم الدولة منارة ثقافية تتحدث عنها الركبان عبر الفضاء السيبراني .
و لم يكتف الشيخ راشد بجسر آل مكتوم للوصل بين البرين ، حيث تفتق عقله و ذهنه الوقاد عن حفر نفق في منطقة الشندغة لشد الرباط أكثر بين البرين التوئم .
و قد يبدو هذا النفق من الوهلة الأولى ممرا من تحت الخور ، و لا يدرك البعض بأن في عمق هذا النفق شبكة كهربائية دورها الرئيس يظهر عندما ينقطع التيار الكهربائي عن أحد البرين ، فإن شبكة الاحتياط تمد أحدهما بالكهرباء دون أن يشعر أحدا بشيء .
يقول أحد وزراء الكهرباء في إحدى دول الخليج لو كان الأمر بيدي لما أطفأت هذا النور عن بلادي أبدا ، لأني عشت في بلد كان الظلام هو سيد المكان . 
و لن نترك هذا الشريان الذي يحوي كل مكونات الحضارة البشرية في مساحة تعبرها في دقائق معدودة ، حتى نذكر عن هذا الخور الجوهرة و الذي جعل من دبي لؤلؤة مضيئة على مدار الأزمنة ، بأنه قد تم ترميمه بقرابة 5 مليارات درهم من أجل إطالة عمره الحضاري لقرون قادمات كما تفعل إيطاليا لبرجها المائل لتعيش لثلاثمائة سنة مقبلة .
بل إن نظافة خور دبي اليوم أشبه بالمرآة ترى وجهك فيه بوضوح ، لماذا ، لأن هناك غواصين متطوعين يقومون على رعاية هذا الكنز الثمين .
و قد أضاف صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم جسر " انفنتي " ذات السعة بمساراته المتعددة و العمارة الراقية على هذا النفق التليد .

منطقة " الحصا " .. و استشراف المستقبل :

في حفل تدشين النسخة العربية من مجلة " نيوزويك " دار هذا الحوار على لسان الشيخ خليفة الصباح صاحب هذه المؤسسة الحديثة . 
محور الحديث كان عن الرؤية الحضارية و الاستشرافية للشيخ راشد كما شاهده بنفسه .
يقول : كتت في زيارة أخوية للشيخ راشد في أوائل السبعينيات من القرن الماضي ، فدعاني لمرافقته إلى مكان لم يفصح عنه ، فأقلتنا الحوامة من قصر زعبيل إلى منطقة لا أعلم منها شيئا .
فحلت بنا في " مقطعة " ليس فيها غير الصخور تمرح بينها الزواحف و السحالي " ظبان " ، و في الأفق الممتد بحر مفتوح بلا حد .
فسألت سموه مستغربا : لماذا جئت بنا إلى هذه المنطقة " المقفرة " طال عمرك ؟!
أجاب الشيخ راشد : لبناء ميناء في هذا المكان !
يقول الشيخ الصباح : حاولت ثنيه عن هذه الفكرة و إقناعه الاكتفاء بميناء راشد الذي و صل صيته كافة بلدان العالم .
اليوم أدركت بعد نظر هذا الرجل العظيم في فكره المستقبلي و نحن على مشارف الألفية الثالثة ، و لم يخطر يوما على بالي بأن مشروعي الإعلامي سيتم تدشينه في ذات المنطقة التي يحتضن فيه البحر ميناء جبل على .
نقول في اواخر  القرن التاسع عشر أراد البريطانيون بناء ميناء في البصرة شبيه بما شيده راشد  في في دبي ، إلا أن الظروف لم تساعدهم آنذاك فصرفوا النظر عن ذلك .
كي يأتي الشيخ راشد ليطبق نظريته في قدرته على اختراق التحديات لتأسيس صروح المستحيلات  في القلب النابض لدبي .

رؤية  بو راشد.. رجل اللامستحيل :

يقول بوراشد : " لقد علمتنا الأيام أن المستحيل وجهة نظر ، و أنه لا توجد حدود للتميز في السباق نحو الريادة ، كما علمتنا الأيام أن الرؤية الواضحة و العزيمة القوية و الرجال المخلصين يستطيعون تحويل الحلم إلى حقيقة و الرؤية إلى واقع " 
سأل طلاب إحدى الكليات صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم خلال زيارة له : عندما كنت في مثل عمرنا و أثناء دراستك في كلية " سانت هيرست " بم كنت تحلم ؟ يقول بوراشد نظرا لعجلة  ارتباطاتي لم أتمكن من الرد ، حتى جاء وقت محاضرة " روح الإتحاد " و وجدت الطلبة أمامي فانتهزت فرصة الرد الذي صادف اليوم الوطني للاتحاد .
لم يكن الشيخ محمد في كليته طالبا فقط ، بل كان متأملا في مستقبل بلده ، فأجاب : كنت أحلم أن أبني دبي لتكون شبيهة بلندن .
هكذا بدأت الفكرة تتخمر في ثنايا عقله حتى استطاع منذ توليه حكم دبي صناعة مدينة دبي لا تشبه إلا نفسها . 
بل استطاع في غضون أقل من عقدين تحويل إمارة دبي إلى مجموعة من المدن كل مدينة منها تحكي قصة مختلفة عن الأخرى .
بدءا من مدينة خاصة بالإنسانية ، أينما احتاجت ليد بيضاء عونا في شتى صوره ، وصولا إلى مدينة طبية تزيل المرض عن طريق هذا الإنسان في صحته و عافيته ، مرورا بمدينة الإنترنت التي ربطت العالم الرقمي في كافة الأنحاء بدبي . 
و قوفا عند مدينة للإعلام تجذب كافة وسائل الإعلام العالمية و الإقليمية و المحلية ، المسموعة و المقروءة و المرئية و المدموجة في قرص إلكتروني واحد ، و تجعل من هذا المكان حديث الركبان مع الربان .
يقول بوراشد عن هذه المدينة " لقد وضعنا أسس نمو و إزدهار مدينة دبي للإعلام من خلال توفير بنية أساسية متطورة و بيئة مناسبة لنمو الأعمال و التشريعات تتسم بالشفافية و المرونة ، و قد استثمرنا مئات الملايين من الدولارات حتى الآن ، و سنستمر في ضخ المزيد من الاستثمارات الإستراتيجية عند الحاجة .. "
ليأخذ بنا إلى المدينة العالمية التي تحوي في قلبها مركز دراجون بقسميه ، محيطة بمدينة أخرى للأقمشة ، و مدينة لمواد البناء على مقربة منها . 
و مدار ذلك يقع حول عنصر حضاري لا غنى عنه لكل أمة تريد الانضمام إلى ركب الحضارة في جميع مكوناتها .
و في هذا المضمون يقول صاحب السمو  الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم " ما زالت فكرة الانفتاح الثقافي و تواصل العقول من أجل بناء المستقبل فكرة صحيحة ، بل لعلها الفكرة الوحيدة التي يمكن الإعتماد عليها لمواجهة تحديات كثيرة تواجهها البشرية ، لقد اختبرنا هذه الفكرة في دولة الامارات خلال  " الخمسين " سنة الماضية ، اهتممنا ببناء عقل الإنسان ، و انفتحنا على عصرنا ، و استقطبنا أفضل المواهب أيضا ، فأصبحت الإمارات اليوم نموذجا لتعايش الثقافات و مركزا رئيسا يربط بين جهات العالم الأربع .. تذكروا دائما أنه عندما تساهم الأفكار في تطور عقل الإنسان فإن من المستحيل أن يعود العقل إلى انغلاقه السابق ، إنما سيزداد انفتاحا و تطورا على العالم "

بوراشد .. و آفاق الرؤية الحضارية

في هذه الإطلالة نعرج على الفكر الحضاري لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم ، و الذي من أول مكوناته الإنسان الذي يقول عنه : "  إن الاستثمار في الثروة البشرية هو الضمانة الأكيدة في مسيرتنا نحو غد أفضل ، فالإنسان هو محرك التنمية ، و فكره هو مدادها و طموحه هو قبس الحضارة يحفظها من التدهور و ينأى بها عن الانحدار " 
و يشارك سموه كذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ذات الرؤية في هذه النقطة التي تعتبر قلب أي حضارة يطلق عليها صفة الإنسانية .
و ذلك عندما أعلن سموه في إحدى دورات قمة الحكومة العالمية عن تصدير آخر برميل نفط بأبوظبي في العام 2050 ، فسأل الجمهور فما العمل ساعتئذ ؟!
سائلا الحضور ما البديل ؟ أنتم الشباب أهم ثروة في هذا الوطن الإنسان .
و هو كلام يتوافق مع أحدث النظريات الاقتصادية التي تعتبر رأس مال الاجتماعي أهم من كل الثروات إذا ما نفدت جميع الموارد ، فالمورد البشري هو الذي يعيد خلق الموارد البديلة و ليس العكس ، بهذا المنطق الحضاري يفكر قادة الإمارات للانطلاق نحو ذرى المستقبل بقيادة الإنسان الذي يملك القدرة على قيادة الزمان و المكان في كل آن .

الوطن معزز .. بالإنجازات الحضارية

و يواصل بوراشد رؤيته في الاتجاه الذي يعزز من دور الإنسان بقوله : "  إن الجميع مطالبون بالعطاء و الابتكار و العمل من أجل تقدم المجتمع و إعلاء شأن الوطن داخليا و إقليميا و دوليا ؛ لأن الوطن مهما بلغت ثروته المادية و مساحة أرضه و عدد سكانه و غنى ثرائه يبقى فقيرا و مهددا و عرضة للطامعين و الحاقدين إذا لم يكن معززا بإنجازاته الحضارية و محميا بسواعد و عقول مواطنيه "
سموه يريد منا أن نكون في قلب الحضارة دون أن نقتات على أطرافها فيضيف قوله  : " ليس لدينا في العالمين العربي و الإسلامي وقت لغير العمل و الإنتاج إذا لم نبادر سنبقى تابعين و هامشيين . إذا لم يقم كل منا بواجبه سنبقى الضعفاء في هذا العالم و الغرباء عن التيار العريض للحضارة الإنسانية ، و المعرضين للمزيد من الأزمات و التدخلات و الانكسارات و الانشطارات "

التواصل .. الحضاري

و يقول سموه : " قبل أكثر من ألف و مائتي عام ابتكر الخلفاء العباسيون مفهوم التواصل المنظم بين الحضارات و لم يسجل التاريخ المكتوب انفتاح حكام مثلهم على حضارات الآخرين و ثقافتهم ، و كانت حصيلة ذلك أن جمعت بغداد كل ما أبدعه العقل البشري في مكان واحد ، و أسست أول جامعة في العالم " بيت الحكمة " الذي ضمت مكتبته أفضل ما أنتجته الثقافات الإغريقية و السريانية و الرومانية و الفارسية و الهندية من علوم و آداب .. لعل أعظم إبداعات الحضارة الإسلامية هي العولمة .. عولمة الثقافة و العلوم و المعرفة ، حيث أخذت حضارتنا الإسلامية من باقي الحضارات و أعطتها و انتفعت من جميع الثقافات و نفعتها "
" إننا نسطر قصة نجاح أبهرت بفصولها و نتائجها العالم ، و نعمل في الوقت عينه على بناءً جسور التواصل بين شعبنا و شعوب العالم اقتصاديًا و ثقافيًا و إنسانيا و علميًا ، إيمانا منا بأهمية العلاقات الإنسانية بين الدول و الشعوب و دورها في توطين أركان السلام و العدل و المساواة لكل شعوب الارض " 
و يتابع سموه: " إننا نريد أن نحقق تواصلا حقيقيا نبني عبره مستقبلا أفضل لأبناء المنطقة و شبابها، حان الوقت لتستعيد فيه منطقتنا دورها التاريخي و الحضاري ، لقد حدد تاريخنا قدره بأن نكون أمة عظيمة ، و يجب أن يجسد مستقبلنا هذا القدر .. إنه قدرنا كمنطقة أن نكون في وسط العالم و قدرنا أن نكون مركزا لالتقاء  الشعوب ، و وعاء تمتزج فيه الحضارات و الثقافات لتعطي البشرية ابداعات جديدة "

قوة الاقتصاد .. قوة للحضارة

الاقتصاد في شريان أي مجتمع بمثابة العصب من الجسم ، إن وصل إليه الألم ، لا ينهي حياة شخص واحد ، بل شعب بأكمله و أمة بكل ما فيها و صولا إلى حضارتها ، فيصبح أكلها خمط و أثل و شيئ من سدر قليل .
حصل هذا في أزمة 1930، و 2008 ، و من ثم في 2019 ، في واقعة جائحة كورونا " Covid 19 "
الذي لم يتعاف العالم  بعد من آثارها .
ماذا يعني كل هذا في صلب اهتمام سموه حين يقول  : " لا بديل للعرب عن الفهم الواقعي للعالم ، و متابعة مستجداته الكثيرة ، و مواكبة انتقاله السريع نحو عولمة الاقتصاد و الأسواق ، و ما يترتب على ذلك من آثار سياسية و اجتماعية و ثقافية ، مدركين أن الأقوياء اقتصاديا أقوياء سياسيا ، و أن الضعفاء اقتصاديا مهمشون سياسيا و ثقافيا و حضاريا " 
و يدلل سموه على ذلك بقوله : " إن العالم الثالث يحتل مرتبة متخلفة في سلم الآقتصاد العالمي ، و عند المقارنة بين الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة مع ألمانيا أو اليابان مثلا فناتج المنطقة يعادل تقريبا انتاج المانيا وحدها ، و يعادل نحو نصف انتاج اليابان ، أي إن انتاج الف و ثمانية ملايين نسمة يعادل انتاج 83 مليون نسمة في المانيا أو انتاج 126 مليون ياباني ، فهناك قصور في الاداء يحتاج  إلى إعادة نظر في السياسات التنموية و الاقتصادية .. إن دول المنطقة تتحرك خارج إطار الفعالية الاقتصادية الدولية المتركزة في كتل ثلاث في جنوب شرق آسيا و أوروبا و أمريكا الشمالية ، فدول العالم الثالث تتحرك على هوامش الاقتصاد العالمي ، و مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي لا تزيد على اثنين إلى ثلاثة بالمائة " 
من هذا المنطلق نجد كيف أن أميركا تتربع على  رأس الهرم الاقتصاد في العالم مقارنة بأقوى الاقتصادات على مستوى الكون الإنساني .
ندرك ذلك من خلال مؤشر الناتج المحلي الإجمالي ، الأضخم على مستوى العالم ، و هذه مقارنة مختصرة مع الدول الكبرى .
حسب أحدث الأرقام ، فأميركا وحدها أكثر من 22 تريليون دولار ، و الصين قرابة 15 تريليون  ،  والإتحاد الأوروبي ، أي 26 دولة من بعد ال " بريكسيت " البريطاني قرابة 19 تريليون ، و أخيرا اليابان  يقترب ناتجها من 5 تريليونات دولار .

المئوية الحضارية للدولة 2071

أبرزت الدولة عن وجهها الحضاري للعالم لخمسين سنة قادمة ، من أجل الوقوف مع الحضارات الأخرى التى يستعد البعض منها للوصول إلى الألفية الرابعة بأدواتها المستحقة كما فعلت الولايات المتحدة التي وضعت خطتها لمائة عام مقبلة منذ عقدين من الآن .
بالنسبة لدولة الإمارات فقد أعلنت عن الخطة الخمسينية ابتداء من شهر سبتمبر 2021 و عن تفاصيل مشاريعها الخمسين قبل الوصول إلى ساعة الصفر في 2 ديسمبر 2021 ، للاحتفاء بيوبيلها الذهبي باقتدار و ثقة تامة للدخول إلى عمق المستقبل بأدواتها المستحقة و اللائقة بمقامها وسط العالم المتقدم .

الخمسينية .. و المبادئ العشرة

لقد و ضعت الدولة هذه الخطة الخمسينية في حصانة من قبل 
صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد رحمه الله بعد أن أصدر قرارًا بشأن اعتماد المبادئ العشرة لدولة الإمارات للخمسين عام القادمة. ونص القرار على توجيه جميع الوزارات والجهات والأجهزة الحكومية الاتحادية والمحلية في الدولة للالتزام بالمبادئ والاسترشاد بها في كافة توجهاتها وقراراتها، والعمل على تنفيذها عبر خططها واستراتيجياتها .
فهذه المباديء العشرة جعلت لها سياجا متماسكا تواجه كل التحديات التي قد تطرأ خلال النصف القرن المقبل ، و تهيئ فرص  الاستفادة من الإمكانات المتاحة لتنفيذ هذه الخطة طويلة المدى على أفضل وجه . 
و فيما يلي  عرض لتلك المبادئ العشرة : -
المبدأ الأول: الأولوية الرئيسية الكبرى ستبقى تقوية الاتحاد من مؤسسات وتشريعات وصلاحيات وميزانيات، وتطوير كافة مناطق الدولة، عمرانيا وتنمويا واقتصاديا، هو الطريق الأسرع والأكثر فعالية في ترسيخ اتحاد دولة الإمارات.
المبدأ الثاني: التركيز بشكل كامل خلال الفترة المقبلة على بناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم ..التنمية الاقتصادية للدولة هي المصلحة الوطنية الأعلى، وجميع مؤسسات الدولة في كافة تخصصاتها وعبر مستوياتها الاتحادية والمحلية ستكون مسؤوليتها بناء أفضل بيئة اقتصادية عالمية والحفاظ على المكتسبات التي تم تحقيقها خلال الخمسين عاما السابقة.
المبدأ الثالث: السياسة الخارجية لدولة الإمارات هي أداة لخدمة الأهداف الوطنية العليا وعلى رأسها المصالح الاقتصادية لدولة الإمارات، هدف السياسة هو خدمة الاقتصاد وهدف الاقتصاد هو توفير أفضل حياة لشعب الإمارات.
المبدأ الرابع: المحرك الرئيسي المستقبلي للنمو هو رأس المال البشري ..تطوير التعليم، واستقطاب المواهب، والحفاظ على أصحاب التخصصات، والبناء المستمر للمهارات هو الرهان للحفاظ على تفوق دولة الإمارات.
المبدأ الخامس: حسن الجوار أساس للاستقرار ..المحيط الجغرافي والشعبي والثقافي الذي تعيش ضمنه الدولة يعتبر خط الدفاع الأول عن أمنها وسلامتها ومستقبل التنمية فيها ..تطوير علاقات سياسية واقتصادية وشعبية مستقرة وإيجابية مع هذا المحيط يعتبر أحد أهم أولويات السياسة الخارجية للدولة.
المبدأ السادس: ترسيخ السمعة العالمية لدولة الإمارات هي مهمة وطنية للمؤسسات كافة ..دولة الإمارات هي وجهة اقتصادية واحدة، ووجهة سياحية واحدة، ووجهة صناعية واحدة، ووجهة استثمارية واحدة، ووجهة ثقافية واحدة، ومؤسساتنا الوطنية مطالبة بتوحيد الجهود، والاستفادة المشتركة من الإمكانيات، والعمل على بناء مؤسسات عابرة للقارات تحت مظلة دولة الإمارات.
المبدأ السابع: التفوق الرقمي والتقني والعلمي لدولة الإمارات سيرسم حدودها التنموية والاقتصادية، وترسيخها كعاصمة للمواهب والشركات والاستثمارات في هذه المجالات سيجعلها العاصمة العالمية للمستقبل.
المبدأ الثامن: منظومة القيم في دولة الإمارات ستبقى قائمة على الانفتاح والتسامح، وحفظ الحقوق وترسيخ دولة العدالة، وحفظ الكرامة البشرية، واحترام الثقافات، وترسيخ الأخوة الإنسانية واحترام الهوية الوطنية ..وستبقى الدولة داعمة عبر سياستها الخارجية لكل المبادرات والتعهدات والمنظمات العالمية الداعية للسلم والانفتاح والأخوة الإنسانية.
المبدأ التاسع: المساعدات الإنسانية الخارجية لدولة الإمارات هي جزء لا يتجزأ من مسيرتها والتزاماتها الأخلاقية تجاه الشعوب الأقل حظا ..ولا ترتبط مساعداتنا الإنسانية الخارجية بدين أو عرق أو لون أو ثقافة ..والاختلاف السياسي مع أي دولة لا يبرر عدم إغاثتها في الكوارث والطوارئ والأزمات.
المبدأ العاشر: الدعوة للسلم والسلام والمفاوضات والحوار لحل كافة الخلافات هو الأساس في السياسة الخارجية لدولة الإمارات، والسعي مع الشركاء الإقليميين والأصدقاء العالميين لترسيخ السلام والاستقرار الإقليمي والعالمي يعتبر محركا أساسيا للسياسة الخارجية.

الإمارات .. و العمق الحضاري

الإمارات وفق هذه المبادئ ، و ضعت الإطار الحضاري لمشروعاتها  
في الخمسين سنة المقبلة بين يدي أجيال المستقبل التي هم أساس أنوارها و قبساتها ، و بدأت في الترويج لها عمليا منذ اللحظة .
و ذلك باستخدام الأدوات المناسبة لاستكمال مئويتها من الآن عبر الذكاء الاصطناعي و الثورة الصناعية الرابعة و اقتصاد المعرفة و الطاقة المتجددة و المدن المستدامة و غيرها من المستجدات التقنية و التكنولوجية المتطورة .
هذه الرؤية الإستراتيجية طويلة الأمد في استشراف مستقبل الإمارات ، بنيت على الأسس التي ترسخت منذ الخمسين سنة الماضية ، فهي لبنات متكاملة صلبة توارثتها أجيال القادة أبا عن جد و بكل جدارة و اقتدار .
فالمؤسس الشيخ زايد رحمه الله ، كان يرى مستقبل الدولة بين عينيه و كأنه مرآة يرى من خلالهاأدق التفاصيل .
لقد وجد الخبراء معجزة الإنسان في زايد ، الذي لم تعجزه تحديات الزمان في قهر المستحيل . 
و كان الشيخ راشد رحمه الله عضد زايد على نفس المسافة في رؤية  الآفاق البعيدة ، في ربط قارات العالم بهذه النطقة .
أما صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم فقد حمل جينة هذه الرؤية مذ كان طالبا في كلية " سانت هيرست " العسكرية و ها نحن نجني ثمراتها الجنية .
و امتدت هذه الرؤية الثاقبة لاستشراف المستقبل في أهم عناصره ، عندما وقف صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان في القمة الحكومية أمام العالم معلنا عن آخر قطرة للنفط سوف يصدر في العام 2050 ، فاستفسر من الحضور مباشرة ، فما العمل ساعتئذ ؟
الحل في الطاقة التي لا تنفد أبدا شباب المستقبل ، ثروة الإنسان التي تفوق كل الثروات .
لقد أدرك سموه بأن رأس المال الاجتماعي مقدم على رأس المال الاقتصادى ، هكذا كان والده الشيخ زايد رحمه الله عندما كان يصنع الرجال و يشتريهم بالمال إذا كانوا يشترون لأنه كان يبني دولة لأزمنة عدة .  
و المدقق بين سطور المشاريع الخمسين لاستكمال مئوية الدولة يلاحظ ، بأن الإنسان المواطن الثروة البشرية الحقيقية للدولة في مفاصلها .
لكي يتم ترسيخ قدم المواطن في مفاصل القطاع الخاص كان مشروع " نافس " في صدارة المشاريع الحيوية التي تخلق فرص عمل ل 75 ألف مواطن ، تتكفل الدولة بتهيئتهم وفق ميزانية تقدر ب 24 مليار درهم و ذلك لمعرفة القيادة بضرورة تواجد أبناء الوطن و هو قطاع يمثل 90% من حجم الاقتصاد بالدولة .
و لم يتم تجاهل المكونات الأخرى من أوساطها ، لأنها ثروة التنوع التي تشارك في بناء الوطن بقيمه العظيمة . 
في الخمسين سنة الأولى أمضى الشيخ زايد رحمه الله ، 35 عام في تأسيس الدولة ، وواصل من بعده  الشيخ خليفة رحمه الله مرحلة التمكين .

قائد عهد المئوية

و جاء اليوم فترة الاستعداد لمرحلة تقوية جذور  الدولة العميقة لبلوغ المئوية من خلال العبور من نفق المشاريع المستقبلية من هذه اللحظة الحاسمة التي تعمق جذور الدولة في عين المستقبل . 
و هو مما أكد عليه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة حفظه الله قائلا :
الـ50 سنة التي مضت كانت سنوات تقدم ورخاء وازدهار وإنجاز.. وفي الخمسين القادمة نحتاج إلى حركة أسرع لأن طموحاتنا أصبحت أكبر و الذي لا يستطيع مضاعفة جهده وإنجازاته 10 أضعاف لن يكون ضمن فريقنا الحكومي خلال الفترة المقبلة .

لن نبتعد كثيرا عن مسيرة الشيخ خليفة رحمه الله في امتداد بوخالد حفظه الله ، فهما صنوان ،كالنخلتين  من أصل واحد ، فكلاهما صنو الوالد الشيخ زايد رحمه الله .
صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ، كان ظلا باردا  للشيخ خليفة رحمه الله طوال فترة رئاسته للدولة العامرة بالمنجزات ، منفذا لتوجيهاته في كل المجالات الاتحادية و المحلية . 
لقد وضع مصلحة الدولة بين عينيه ، و احتياجات المواطنين بين حنايا صدره و في شغاف قلبه .
وضع صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ، بين أيدينا خارطة الطريق لمستقبل مفعم بالحراك الديناميكي لمجتمع فتي يعج بالنشاط و الطموح لما هو أكثر منا تم انجازه في الخمسين سنة الماضية .
حيث ركز سموه على الإماراتي الإنسان و الذي هو في مقدمة جميع مشاريع الدولة في مئويتها المقبلة ، و هو صلب المراس بحيث يملك الأدوات التي تثقب جدار التحديات .
مع التأكيد على أن للمؤسس الوالد زايد رحمه الله الدور المركزي في صناعة نموذج خاص بالدولة ركيزتها التعايش بين جميع المقيمين على أساس من الرعاية و الشراكة في البناء ،فهم بغض النظر عن جنسياتهم و لغاتهم و أديانهم ،   جزء مهم من عملية التنمية المستدامة ، و قيمة مضافة للاقتصاد الوطني الذي يجب أن يبقى القوة الكامنة في شريان النمو .
و على أساس أن جيل التأسيس  هن القوة الملهمة لقيادة الدولة ، فشموع القادة العظام لا زالت جذوتها مشتعلة " لعلي أجد على النار هدى " الاهتداء و الاقتداء بمن سبق أصبح مرشد سموه في الأمانة التي سلمها حكام الإمارات للمضي بسفينة الإتحاد قدما بكل ثقة و اقتدار . 
حضارة الإمارات ، تحتاج إلى اقتصاد لا يشق له غبار ينافس اقتصادات الدول الكبرى ، من أين لنا هذا في كلمة رئيس الدولة حفظه الله حين قال :
" لا بد من تسريع جهود تنمية الاقتصاد عالميًا، وسنستمر في تعزيز القدرة التنافسية لدولة الإمارات وتحقيق أفضل المؤشرات العالمية في هذا المجال "
هذا الحديث لا يصدر إلا من واثق  يمشي بخطى ثابتة ، و دليل ذلك من وحي الأرقام ، فقد تخطى الصندوق السيادي مبلغ التريليون دولار ، و هو يعد قيمة الاحتياط لمستقبل الأجيال المقبلة على و ضع أفضل ، و النمو الاقتصادي السنوي قد قارب  3% في وقت تعاني دول كبرى من الركود . 
أما مسك ختام حديث القلب لسموه بقوله : " ستظل سياسة دولة الإمارات داعمة للسلام والاستقرار في العالم وعونًا للصديق والشقيق "
هذ المطلب الملح ينشده العالم أجمع ، فبغير السلام و الاستقرار ، لا توجد تنمية حقيقية و لا ازدهار  .
فالتنمية المستدامة رديفة للأمن و الأمان و الاستقرار ، فهو شرط لازم و مطلب حاسم و الحزم في تحقيقه لازم .